د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

كتاب بولتون: مُعضِلة الإنصات

يقول جون بولتون في كتابه الصادر أمس (الثلاثاء)، إن الرئيس الروسي في أحد لقاءاته مع نظيره الأميركي كان يتحدث لمدة طويلة جداً، حتى إن مترجم اللقاء قال لاحقاً إن بوتين قد تحدث نحو 90% من مدة اللقاء (من دون مدة الترجمة).
لفتت نظري هذه القصة التي قد لا ينتبه إليها البعض. غير أنها في الواقع تعكس كثيراً مما يحدث في غرف الاجتماعات، واللقاءات الاجتماعية، والنقاشات العقيمة، التي نعتقد فيها أننا قد كسبنا الطرف الآخر بكلامنا المعسول أو حججنا الدامغة، ثم ننسى أن الاستئثار بالحديث ينفر المستمعين ويشتت تركيزهم. ولذا وجد العلماء أن مدة تركيز المرء تبدأ بالانخفاض تدريجياً بعد 20 دقيقة فما بالك إذا كان المتحدث هو من فرض أجندة الحوار في موضوع لا يمتّ لاهتمام الجالسين أو الجمهور بصلة.
الكتاب الجديد لجون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، كان بعنوان «الغرفة التي شهدت الأحداث». وبتأمل صفحاته وجدتُ أن كلمة «الاستماع» ومشتقاتها قد ذُكرت في 38 موضعاً، كثير منها في صياغة سلبية، والمفارقة أن كلمة «التحدث» قد ذُكرت في الكتاب كله نحو سبعة أضعاف الاستماع وذلك في 276 موضعاً. ربما ليست للرقمين علاقة، لكنّ واقع الحال والدراسات تشير بوضوح إلى أن الإنسان يحب التحدث أكثر من الاستماع أو بالأحرى الإنصات. فكثير من المسؤولين مثلاً يعتقد أنه ينصت (بجوارحه وكامل تركيزه) لكنه في الواقع «يستمع» (أي من دون تركيز شديد) تماماً كما يستمع لصوت المذياع أو التلفاز أو فيديوهات هواتفه ويحاول في الوقت نفسه الاستماع لمحدثه.
المفارقة أن كتاب بولتون ذُكر فيه أن الرئيس ترمب قد اشتكى من طول حديث آخرين، وفي الوقت نفسه تذمر بولتون في أكثر من موضوع من عدم إنصات ترمب له. غير أننا لم نجد في الكتاب ما يشير إلى أن المؤلف نفسه (بولتون) يُحسِن الإنصات من عدمه. وهذا يجرنا لمعضلة أخرى وهي أن المرء يصعب عليه تقييم نفسه ويرى مشكلات الناس بصورة أكبر من نواحي تقصيره. وهذا ما حاولت أن أقيسه في استبانة علمية بكتابي «أنصت يحبك الناس».
ولأن الإنصات قضية خطيرة وفي غاية الأهمية اضطررت إلى أن أكتب فيها سلسلة بدأتها بثلاثة كتب، والبقية ستأتي، لسبب بسيط وهو أن الإنسان يقضى 45% من وقته في الاستماع، و35% في التحدث، و16% في القراءة، و9% في الكتابة. والمفارقة أن هذه العناصر الأربعة هي وسائل التواصل التي نتعلمها جميعاً في المدارس ولكن قلما تجد منهاجاً أو فصلاً يعلمك كيف تنصت للآخرين (وليس الاستماع).
بعض المسؤولين يظن أنه ينصت لمن حوله لكنه في الواقع ينتظر دوره في الحديث. وشتان ما بين الإنصات والانتظار. وكلما علا منصب المرء في أي مؤسسة زادت الحاجة إلى ممارسته لآذان صاغية حتى يستطيع أن يصل إلى أفضل قرار مما يتناهى إلى أسماعه من معلومات، وشواهد، وأدلة، وحجج دامغة.
مشكلة بعض المسؤولين أنهم ينسون حسن اختيار «ثلة المقربين» فيعتقدون أن الاختيار الأمثل يتمثل في انتقاء من يتفقون معهم طوال الوقت. أو كما يسميهم بولتون في كتابه «Yes Man» أي من لا يقولون «لا» لمسؤولهم. والقيادي حينما يكتشف أن كل من حوله يبارك له قراراته فهو بلا شك قد بدأ يدخل في مرحلة خطيرة لأنه قد يسير نحو الهاوية. والأصل أن المرء خطّاء وخير الخطّائين من يتراجعون عن أخطائهم فور ما يسمعون رأياً مغايراً، أو وجيهاً، أو موضوعياً يستحق الاهتمام. ولا يرون في الرأي الآخر عداوة بل إثراء. كما أن التراجع لصالح رأي مخالف هو أبهى صور الثقة بالنفس.
ولا يلام الناس إن أمسكوا عن الكلام لأنهم يشعرون بأن مجرد التعبير عن رأي صادق في مشروع قرار بسيط قد يؤدي إلى خروجهم من ثلة المقربين إلى دائرة المغضوب عليهم. وهذه مشكلة المسؤولين في كل مكان في العالم.