د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

عندما تتصرف الشركات كالحكومات

امتنعت شركتا (مايكروسوفت) و(أمازون) عن بيع برامج التعرف على الأوجه للشرطة الأميركية على خلفية مقتل الأميركي (جورج فلويد)، في محاولة من الشركتين للضغط على الحكومة الأميركية لإعادة صياغة التشريعات المحققة للعدالة الاجتماعية. هكذا وبكل بساطة قررت الشركتان رفض التعامل مع جهاز حكومي لا يتوافق مع توجهاتهما، وسواء كان هذا التوجه صحيحا أم خاطئا، إلا أن هاتين الشركتين استخدمتا قدراتهما التقنية لتوجيه القرار الحكومي. ومواجهة الشركات للحكومات ازدادت على نحو صريح في السنوات الأخيرة، على خلفية زيادة سطوة الشركات التقنية وتوسعها لما يشبه الإمبراطوريات، حتى أصبحت بعض الشركات وبشكل يصعب الاختلاف معه، أقوى وأكثر تأثيرا من الحكومات، وأصبح مدراؤها التنفيذيون أكثر سلطة من رؤساء بعض الدول.
والدور الحكومي للشركات ليس جديدا على التاريخ، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك شركة الهند الشرقية التابعة لبريطانيا، فحين تأسست الشركة عام 1600، احتكرت تجارة الهند وجزءا ضخما من مستعمرات التاج البريطاني في شرق آسيا. وكانت الشركة أقرب ما يكون للحاكم لهذه المناطق، فتفرض الضرائب والغرامات والعقوبات. واستمرت الشركة كذلك بدعم عسكري وسياسي بريطاني حتى انحلت منتصف القرن التاسع عشر.
ولكن الحاصل هذه الأيام يختلف عن حالة شركة الهند الشرقية، فالشركات ليست قوية باستنادها على حكوماتها، بل هي قوية بمعايير لم تتوفر لشركة الهند الشرقية. فشركتا «غوغل» و«أبل» تستطيعان الوصول إلى أكثر من ثلاثة مليارات ونصف المليار من البشر من مستخدمي الأجهزة الذكية، و«وفيسبوك» لديها مليارين ونصف مستخدم حول العالم، وتويتر لديه أكثر من 330 مليون مستخدم نشط. هذا العدد الهائل من المستخدمين جعل هذه الشركات مؤثرا قويا على المستويين الثقافي والاجتماعي في العالم، والحديث هنا عن العالم بأسره، لا لدولة لها حدود لا تتعداها على الأغلب. كما أن هذه الشركات لها سطوة اقتصادية لم تكن لغيرها تاريخيا، فالقيمة السوقية لبعض هذه الشركات تتعدى ميزانيات الدول، وأرباحها متصاعدة باستمرار. كل ذلك جعل لهذه الشركات سطوة سياسية تتعدى سلطة الحكومات، فهي قادرة ماليا وتستطيع الوصول للناس، والتأثير عليهم بحسب توجهاتها، وهو ما جعل «بيل جيتس» يصرح مؤخرا بضرورة إعادة صياغة لتشريعات هذه الشركات، بما فيها شركته «مايكروسوفت».
وبعيدا عن تصرف (مايكروسوفت) المباشر تجاه الشرطة الأميركية، فإن الكثير من هذه الشركات تؤثر على الحكومات بتبنيها توجهات سياسية. فعلى سبيل المثال، لطالما واجهت (نت فليكس) اتهامات بتوجهاتها اليسارية، والمتأمل في برامج (نت فليكس) يجد الكثير من الوثائقيات التي تهاجم الرئيس الأميركي (ترمب)، ولعل آخرها ربطه مع (جيفري إيبستين) صاحب التاريخ المشبوه. وقد صدرت عدة تقارير توضح التأثير المستقبلي لإنتاجات (نت فليكس) على الانتخابات الأميركية القادمة على النطاق القصير، وعلى المستقبل السياسي الأميركي على المدى الطويل. ولا يستغرب هذا التأثير المحتمل بعد معرفة أن عدد مستخدمين (نت فليكس) في العالم يزيد على 182 مليون مستخدم، منهم 70 مليونا في أميركا لوحدها. وما عزز هذه الاتهامات توقيع الرئيس الأميركي السابق (أوباما) مع الشركة لإنتاج ما أسموه (تدريب قادة المستقبل)، وحاولت الشركة مرارا نفي تهمة التوجهات اليسارية إلا أن محتواها قد يظهر عكس هذا النفي. وليست (نت فليكس) وحدها، فـ(تويتر) قامت وبشكل علني بتحدي الرئيس الأميركي (ترمب) بالتعليق على إحدى تغريداته بكونها تحتوي معلومات غير دقيقة.
إن تحدي الشركات للحكومات، وإن كان غير مقلق في هذه الأيام، إلا أنه قد يكون كذلك في المستقبل، فسطوتها الاجتماعية والاقتصادية تزيد بشكل متسارع. وتأثيرها الثقافي أصبح حاضرا وبشكل صارخ غير مسبوق. والأكثر من ذلك أن هذه الشركات تتوسع بشكل مستمر في النشاطات، فالشركات التقنية هي من تستثمر في الذكاء الاصطناعي الذي وإن لم يشع بعد من الناحية التطبيقية إلا أنه يحمل الكثير من القيمة الاقتصادية المستقبلية، وهي من تستثمر في السيارات الكهربائية والسيارات ذاتية القيادة، والدرونز. أي أنها تمتلك الصناعات الاستراتيجية المستقبلية، التي قد تمنحها ميزة إضافية على المال والتأثير الاجتماعي. وفيما كانت الشركات في السابق تؤثر على الانتخابات عن طريق اللوبيات السياسية، فهي الآن ليست بحاجة إلى هذه الممارسات بعد أن استطاعت الوصول إلى الشعوب بشكل مباشر دون وسيط. فإن كانت هذه الشركات تمتلك المقدرة على تحدي الحكومات والتأثير عليها وهي في وضعها الحالي، فكيف سيكون وضعها بعد امتلاكها لصناعات المستقبل؟