في بداية شهر يونيو (حزيران) قامت وزيرة الدفاع زينة عكر بتوزيع نصّ «قانون قيصر» على الوزراء بهدف الاطلاع على مضمونه، وخصوصاً لجهة ما تردد من المخاوف المحقة، من انعكاس مندرجات العقوبات التي يفندها القانون بالتفصيل على لبنان ومن يتعامل مع دمشق وعلى عدد من المسؤولين اللبنانيين.
وتعرضت عكر من أوساط إعلامية، تعكس وجهات نظر «حزب الله»، لحملة قاسية، مع أن الحكومة كلها هي مِن صنع «حزب الله» وتعكس لوناً سياسياً واحداً، يقوم على التحالف بين الحزب و«حركة أمل» والرئيس ميشال عون، أضف إلى ذلك أن كثيراً من المعلومات والتحذيرات كانت قد توافرت عن مندرجات القانون، وما يمكن أن يعكسه على لبنان الرسمي، الذي ينفذ سياسة تهافت وانفتاح على النظام السوري منذ أعوام من «حزب الله».
ولأن لبنان بلد العجائب، كان من المثير فعلاً يوم الأربعاء الماضي أن يقوم وزير الخارجية ناصيف حتي باستقبال السفيرة الأميركية دوروثي شيا لاستيضاحها عن القانون وتداعياته المحتملة على لبنان والشركات اللبنانية، في وقت كانت الأخبار تتحدث منذ أسابيع عن تهريب المازوت والقمح المدعوم من لبنان إلى سوريا، وهو ما أشعل المظاهرات الأخيرة، والأغرب من كل هذا أن دعوة السفيرة شيا إلى الخارجية، جاءت رغم أن السفارة أعادت قبل ساعات تغريدة وزارة الخارجية عبر «تويتر»، حول مضمون «قانون قيصر» ومفاعيله، فهو «يوفّر للحكومة الأميركية آلية قوية لمحاسبة النظام السوري على فظائعه، وبموجبه ينبغي على أي شركة أجنبية عدم الدخول في أي عمل مع هذا النظام».
الأشدّ غرابة من كل هذا أن المسؤولين في الحكومة اللبنانية، بدوا وكأنهم لم يتنبهوا إلى تقرير صدر في 10 يونيو عن لجنة الدراسات الجمهورية في الكونغرس، تضمن توصيات حول الشرق الأوسط، تدعو إلى احتواء النفوذ الإيراني في المنطقة، من خلال تشديد حملة الضغوط القصوى على طهران، والمفاجأ أن التقرير وضع لبنان وإيران في سلة واحدة، عندما ضمّه إلى هذه الجهود مركزاً على أمرين مهمين جداً...
أولاً - الدعوة الصريحة إلى إنهاء المساعدات الأمنية الأميركية إلى الجيش اللبناني، وكذلك دعوة الكونغرس، بسبب ما سمّاه سيطرة «حزب الله» على لبنان، إلى إقرار تشريع يحظر إرسال أي أموال إلى صندوق النقد الدولي لإنقاذ لبنان، معتبراً أن إرسال هذه المساعدات لن تعني «سوى مكافأة لـ(حزب الله) بينما يتظاهر اللبنانيون ضد الفساد ويدعون إلى الوقوف في وجه (حزب الله)»، وتطبيق القرارات الدولية، ومنها القراران 1559 و1701 اللذان يدعوان إلى حصر السلاح في يد الدولة اللبنانية!
ثانياً - الدعوة صراحة إلى أن تقوم الولايات المتحدة بمعاقبة حلفاء «حزب الله» في لبنان، وقد ذكر بالاسم صهر الرئيس ميشال عون، جبران باسيل، ملوحاً بوجود مروحة واسعة من الأسماء التي سيتم الإعلان عنها.
هذا التقرير الذي وضعته مجموعة من النواب المحافظين ليس ملزماً حتى الآن للإدارة الأميركية، لكنه في ذهابه إلى هذه الحدود يوحي ضمناً أنه من الممكن أن تتسع أهداف «قانون قيصر» إلى هذه الحدود، ثم إنه من المؤكد والواضح أنه يذكّر بأن مفتاح صندوق النقد الدولي، الذي ينخرط في مفاوضته للحصول على دعم يساعده في مواجهة أزمته الخانقة، يبقى في يد الولايات المتحدة، ولعل ما يؤكد هذا حركة الاستنفار الدبلوماسي وتحرك السفراء الأوروبيين في بيروت، باتجاه المسؤولين، سواء لجهة التنبيه إلى مخاطر «قانون قيصر» وتداعياته المحتملة على لبنان، أو لجهة تلمّس الموقف اللبناني من القانون، وخصوصاً بعد إبلاغهم أن الدول الأوروبية ستلتزم مندرجات العقوبات!
في موازاة ذلك، كانت المفاوضات التي تخوضها الحكومة اللبنانية مع صندوق النقد الدولي، بمثابة فضيحة رغم عقد 14 جلسة حتى الآن، فقد تبيّن أن «خطة الإنقاذ» التي أعلنها الرئيس حسان دياب من بعبدا، في خلال اجتماع، وصفه عون بـ«اليوم التاريخي»، تقوم على خلفيات سياسية وأرقام غير واقعية، جعلت منها فضيحة تاريخية، أولاً لأن الدولة اضطرت إلى تشكيل لجنة نيابية لتوحيد الفوارق بين أرقام الحكومة الهمايونية وبين أرقام المصرف المركزي العلمية، وثانياً لأن الفضيحة الأدهى بيّنت أن حكومة اللون الواحد تبحث عن ضحيتين لتحميلهما مسؤولية إفلاس البلاد...
أولاً في محاولتها تحميل المسؤوليةِ حاكمَ المصرف المركزي رياض سلامة، الذي كان هدفاً يومياً للتحامل منذ بداية العقوبات الأميركية على «حزب الله»، وامتثال المصارف لهذه العقوبات حرصاً على الوضع المصرفي العام في لبنان.
ثانياً محاولة التهرّب من أي عملية إصلاح حقيقي تطالب بها الدول المانحة وصندوق النقد الدولي، لأن من الواضح أن هناك مسؤولين وسياسيين نهبوا البلاد، وأوقعوها في ديون فلكية، وأي إصلاح حقيقي يفترض أن يبدأ بهم، ولكنهم عبر محاولاتهم تحميل المصارف والبنك المركزي المسؤولية، يكونون قد حمّلوا المودعين الذين سرقوهم مسؤولية السرقة... فساد واضح فاضح لا يبرر طبعاً!
مجموعة الأزمات الدولية وضعت دراسة حاسمة حول هذا، عندما نشرت تقريراً يوم 8 يونيو يقول؛ لا حلّ غير الإصلاح الحقيقي لتصحيح الوضع، وإن أي إصلاح على قواعد بنيوية سيؤدي إلى وضع نهاية للنموذج السياسي الفاسد؛ حيث تعمل الزمر السياسية الفاسدة على سرقة موارد الدولة وتقاسمها، ولكن لا قدرة أو رغبة في هذا الإصلاح عند الطبقة السياسية، لأنه سيسحب البساط من تحت أقدامها، ومن الصعب جداً أنهم سيقومون بالإصلاح، ما لم يجد اللبنانيون الذين أعلنوا الثورة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أساليب للضغط على المستوى السياسي!
يوم الأربعاء الماضي، مع بداية تطبيق «قانون قيصر»، الذي يفرض عقوبات على «حزب الله» وكل من يتعاون أو يدعم النظام السوري، ويسعى تالياً إلى سحب وتقطيع حزام النفوذ الإيراني، من لبنان إلى طهران، مروراً بسوريا والعراق، خرج حسن نصر الله، وهو مهندس الحكومة اللبنانية، ليعلن العزم على مساعدة سوريا على «قانون قيصر»، داعياً لبنان إلى رفض التقيّد به والرضوخ له، ما يعني أولاً ضرورة نسيان إمكان الحصول على فلس واحد من صندوق النقد، وثانياً الاستعداد لمروحة قاسية من العقوبات الأميركية؛ خصوصاً في ظل محاولات وضع لبنان و«حزب الله» في سلة واحدة.
أكثر من هذا، دعا نصر الله إلى التخلي عن الدولار والانفتاح على «البديل الشرقي» من إيران إلى الصين، بما يضع لبنان نهائياً في خط الممانعة، وبدا كمن يقول؛ الأمر لي صراحة، عندما حثّ اللبنانيين على التصعيد في وجه كل طرف سياسي يرفض هذا الاتجاه، مستخلصاً أن «قانون قيصر» يضغط على اللبنانيين لتخييرهم بين الجوع أو تسليم سلاح «حزب الله»، مختزلاً موقف لبنان كله، بطرح ثلاثية جديدة، أي: لن نجوع ولن نسلّم السلاح وسنقاتل الأميركيين!
بعد كل هذا ليس غريباً أن يقوم «قيصر» بإقفال أبواب صندوق النقد الدولي في وجه لبنان، رغم أن إيران تتودد لهذا الصندوق منذ 3 أشهر، والغريب أن يكون لبنان مدفوعاً إلى صفّ الممانعة الآخذ في التفكك من سوريا إلى العراق، وذلك نتيجة ما يتردد عن اتفاق ضمني أميركي روسي تركي، لن يكون في وسع الصين أن تحول دونه!
8:7 دقيقه
TT
لبنان... الجوع أم صندوق «قيصر»!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة