هال براندز
كاتب من خدمة «بلومبيرغ»
TT

الأزمة الأميركية ـ الألمانية وخطة ترمب لتقليص القوات

لا يعتبر كل انسحاب لقوات أميركية من قواعد أجنبية كارثة، ففي نهاية الأمر تبقى الأصول العسكرية الأميركية محدودة. ولذلك، يبدو من المنطقي إعادة تمركزها من حين لآخر.
ومع هذا، تفيد تقارير بأن الرئيس دونالد ترمب يخطط لسحب 9500 جندي من حوالي 34000 جندي أميركي متمركزين داخل ألمانيا، الأمر الذي أثار حالة من الفزع على جانبي الأطلسي. ويرجع ذلك إلى أن هذه الخطوة تبدو مفتقرة إلى المنطق من الناحية الاستراتيجية، وتعكس بعض أسوأ النزعات وأكثرها تدميراً، بجانب أنها تكشف حالة التعفن العميقة التي أصابت أهم علاقات الولايات المتحدة داخل أوروبا.
ومع هذا، لم يأتِ قرار ترمب من العدم، فقد عكف «البنتاغون» على دراسة إمكانية إعادة نشر قوات أميركية في أوروبا لبعض الوقت. وناقشت الإدارة تحويل جزء من وجودها الدائم داخل أوروبا إلى بولندا. وعام 2019 نقل البنتاغون بالفعل 1000 جندي من غرب أوروبا إلى بولندا؛ إلا أن هذا لا يعني أن الأمر أخذ حقه في الدراسة؛ لأنه من الصعب استنباط أي منطق استراتيجي راشد وراء هذا الاختيار من جانب ترمب.
ولا يشبه ذلك القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة مطلع الألفية الجديدة، بسحب بعض قواتها من كوريا الجنوبية. تحول جاء في إطار سياسة واسعة عالمية متعمدة لإعادة تنظيم القوات الأميركية في إطار الحرب ضد الإرهاب. وجاءت هذه الخطوة بالتناغم مع إعادة تمركز القوات الباقية داخل كوريا الجنوبية، من أجل تعزيز قدرتها على البقاء حال اشتعال حرب، وبالتالي زيادة قيمتها لأبناء كوريا الجنوبية. كما أن القرار المتعلق بالقوات الأميركية في ألمانيا يختلف عن قرار سحب قوات من منطقة حرب تتكبد فيها القوات خسائر ثقيلة في الأرواح من دون تحقيق غاية استراتيجية قيمة. نمط من الانسحاب بمقدوره خدمة المصالح الوطنية للبلاد.
أما هذه المرة، فإن التحول في وضع القوات الأميركية داخل ألمانيا يهدد بالعمل ضد أولوية أولى أمام واشنطن داخل أوروبا: تعزيز الجانب الشرقي لحلف «الناتو» في مواجهة عدوان روسي محتمل. ويأتي التحول في وقت تتفاقم فيه الشكوك إزاء مدى الالتزام الأميركي حيال القارة الأوروبية. علاوة على ذلك، جرى اتخاذ القرار على النحو المباغت الذي أصبح من السمات المميزة في أسلوب عمل ترمب: فلم تشر تقارير إلى عقد ترمب مشاورات حقيقية مع، أو حتى إخطاره الألمان مسبقاً، أو أياً من الحلفاء الآخرين في «الناتو» بقراره (أو حتى مسؤولين بالبنتاغون).
من ناحية أخرى، من الممكن إعادة نشر جزء غير معروف من الجنود الـ9500 في بولندا، في محاولة لتقليل تأثير قرار سحب قوات من ألمانيا على الوجود الأميركي داخل أوروبا. إلا أن الأمر سيستغرق سنوات، وأموالاً هائلة، لتحويل بولندا إلى مركز للقوات الأميركية على غرار ألمانيا. ويعود ذلك إلى عدم توفر كثير من البنية التحتية داخل بولندا، اللازمة لاستضافة قوات أميركية ضخمة.
وحتى لو كان الهدف مجرد تقليل التكاليف لعمليات الانتشار العسكري الأميركية بالخارج - أحد الأهداف المعلنة للرئيس - فإن هذا الانسحاب ربما لا يجدي، فمثلما أوضح النائب مايك غالاهر، المفكر الجمهوري البارز المعني بالسياسة الخارجية، في تغريدة له، فإن: «القوات الراحلة عن ألمانيا سيتعين عليها الذهاب لمكان آخر، وفي أي مكان ستتوجه إليه، لن تحظى بميزة الدعم المالي الألماني».
بالفعل، توفر ألمانيا واحداً من أكثر مستويات الدعم المالي التي توفرها دولة مستضيفة لقوات أميركية في الوقت الراهن على مستوى الدول الحليفة لواشنطن، قرابة مليار دولار سنوياً نقداً ومدفوعات عينية. وليس هناك ما يضمن أن بولندا، وهي دولة أقل ثراءً بكثير من ألمانيا، ستوفر مستوى من الدعم مكافئاً أو أكبر، مقابل كل جندي أميركي.
وبذلك، تبدو السياسة الأميركية غير متناغمة، إلا إذا وضعنا في الاعتبار أن ثمة شيئاً آخر يدور. جدير بالذكر هنا أن قرار سحب القوات الأميركية جاء في غضون أيام من أحدث المشاحنات بين ترمب وبرلين، والتي دارت حول قرار المستشارة أنجيلا ميركل عدم الحضور شخصياً لاجتماع مجموعة الـ7 في الولايات المتحدة هذا الشهر، ورفضها توجيه الدعوة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للانضمام إلى المجموعة.
وبالنظر إلى أنَّ ترمب لطالما نظر إلى ميركل كعدو أكثر منها كحليف، وبالنظر إلى تاريخه الطويل في استغلال السياسة الخارجية في تصفية ثاراته الشخصية، يبدو من المنطقي تماماً أن السبب الرئيسي وراء قرار سحب قوات أميركية من ألمانيا، رغبة ترمب في معاقبة قائد أجنبي غير متعاون. وما زاد الطين بلة ويثير القلق بدرجة أكبر، ما كشفه هذا الموقف عن الحالة المتردية للعلاقات الأميركية- الألمانية.
ورغم كل الأساطير المحيطة بالعلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تبقى الحقيقة أن العلاقات الأميركية - الألمانية شكَّلت العامل المحوري في ضمان السلام والتعاون داخل أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وأثناء الحرب الباردة، نجحت أميركا في حماية ألمانيا الغربية من تهديدات وعدوان دول «حلف وارسو»، ووفرت المناخ الأمني المناسب للبلاد الذي مكنها من التعافي اقتصادياً دون إثارة فزع جيرانها. والتزمت الولايات المتحدة بناء ألمانيا ديمقراطية مزدهرة، لا تسعى وراء نزعات عدوانية مولودة من رحم الاستبداد.
في المقابل، عمل الألمان بمثابة الدعامة الرئيسية للقوة الأميركية داخل أوروبا، واستضافوا نصيب الأسد من القوات الأميركية المرابطة في القارة. وبعد الحرب الباردة، عملت برلين بدأب على تثبيط انسحاب أميركي، وذلك لإدراك الألمان أن أوروبا لا تزال بحاجة إلى وجود واشنطن ومشاركتها، خشية أن تنكص من جديد إلى الأنماط المظلمة التي سادت بالماضي. وإذا نظرنا إلى أوروبا ما بعد عام 1945، باعتبارها قصة أشبه بمعجزة للخروج من تاريخ طويل من الصراعات العنيفة، فإن التحالف الأميركي- الألماني يحتل قلب هذه القصة.
ومع ذلك، تعيش هذه العلاقة اليوم حالة أزمة، وهناك تبادل لإلقاء اللوم في هذا الصدد. من وجهة نظر الأميركيين، كان الألمان حلفاء أدنى من المستوى المأمول لسنوات، فقد تباطؤوا في بناء قوة عسكرية قادرة، ولو للحد الأدنى، على المعاونة في الدفاع عن جيران برلين الشرقيين. كسل مثير للغضب على نحو خاص بالنظر إلى كل ما فعله حلفاء ألمانيا الغربية في «الناتو» لحمايتها أثناء الحرب الباردة.
كما أن الفائض التجاري الهائل لألمانيا كان سبباً لوقوع انقسام داخل أوروبا ومع الولايات المتحدة. ورغم معاونة ميركل في الإبقاء على عقوبات اقتصادية ضد موسكو لسنوات عدة، فإن الدعم الألماني لخط أنابيب «نورد ستريم 2» يهدد بجعل أوروبا أكثر اعتماداً على صادرات الطاقة الروسية.
بيد أن أكثر ما يلفت في هذا الصدد، مستوى العداء الذي أظهره ترمب تجاه ميركل وألمانيا منذ ما قبل انتخابه، فقد انتهك الرئيس باستمرار قاعدة غير مكتوبة للتحالفات السياسية، بتوجيهه إهانات شخصية لميركل، وشن هجمات سياسية ضدها علانية. كما أرسل إلى ألمانيا سفيراً يبدو أنه يعتبر أن مهمته تمكين الشعبويين غير الليبراليين داخل ألمانيا، وبث الفرقة داخل أوروبا.
وفيما يخص السياسة، أثار الرئيس على نحو متكرر الشكوك في مدى التزام الولايات المتحدة بـ«الناتو» الذي يشكل أساساً حيوياً للعلاقات الأميركية - الألمانية. وبالنظر إلى الأسلوب الذي يمارس به ترمب الحكم، وإبدائه قدراً كبيراً من الازدراء تجاه أعراف التنسيق والتشاور مع الحلفاء، يبدو أن ميركل قررت ببساطة أن تبقي على مسافة بينها وبينه، وتنتظر لترى ما سيتمخض عنه نوفمبر (تشرين الثاني).
وبذلك وفي خطوة واحدة، كشف ترمب من جديد عن نزوع نحو الثأر، وطبيعة متقلبة في السياسات الأميركية، سِمَتان تثيران القلق على نحو خاص عند ظهورهما لدى قوة عظمى. وقد أكد ترمب أنه لا يزال غير قادر على استيعاب كيف أن إبقاء واشنطن على قوات عسكرية ضخمة بالخارج وقت السلم يمثل خدمة لمصالحها، وليس خدمة لمصالح دول أخرى. على الأقل عبر تأكيده هذا قدم لنا لمحة عن مدى التردي الذي وصل إليه واحد من أهم التحالفات للولايات المتحدة، في وقت يعاني النظام العالمي فيه من تضعضع استقراره على نحو متزايد.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»