د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

العنصرية الاقتصادية

كان مقتل المواطن الأميركي ذي الأصول الأفريقية (جورج فلويد) على يد أفراد الشرطة في يوم الخامس والعشرين من مايو (أيار) الماضي، شرارة اندلاع مظاهرات، سرعان ما تحول كثير منها إلى أعمال شغب صاحبتها سرقات ونهب للمتاجر في الولايات المتحدة، وامتدت هذه الشرارة إلى دول أخرى من باريس في فرنسا وحتى لندن ومانشستر في بريطانيا وغيرها من المدن.
ويبدو الأمر في ظاهره على أن هذه الموجة - على الأقل في أميركا - تستهدف قسوة الشرطة والعنصرية الاجتماعية التي يواجهها ذوو الأصول الأفريقية. إلا أن الأمر يتعدى هذه العنصرية، ولا يمكن حله بركوع البيض في الميادين العامة وإبداء احترامهم لغيرهم من الأعراق الأخرى. فالجذور الاقتصادية لهذه المشكلة لا يمكن التغافل عنها، والأرقام شاهدة على أن هذه العنصرية لها أثر اقتصادي شنيع على أصحاب البشرة السمراء.
فالفوارق الاقتصادية بين البيض وما سواهم من الأعراق ضخمة جداً في الولايات المتحدة، ففي 2016، أوضحت إحصائية أن متوسط ثروة الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية تبلغ 17 ألف دولار، بينما يرتفع هذا المبلغ إلى عشرة أضعاف عند أصحاب البشرة البيضاء ليصل الرقم إلى 170 ألف دولار. وبلغ متوسط دخل الأميركيين الأفارقة 41 ألف دولار في 2019 بزيادة قدرها 3.4 في المائة على عام 2008، بينما ربا هذا الرقم عند الأميركيين البيض على 70 ألف دولار، بزيادة قدرها 8.8 في المائة على عام 2008.
هذه الأرقام أوضحت وبشكل يصعب الاختلاف معه أن المجتمع الأميركي لا يوفر فرصاً متساوية لجميع المواطنين، وأن تحسن الاقتصاد الأميركي في العقد التالي للأزمة المالية، لم يلقِ بظلاله على جميع المواطنين الأميركيين، بل اختص جزء منهم دون البقية. ولا يختلف الأميركيون من الأصول اللاتينية عن أقرانهم من الأصول الأفريقية، بل هم على حد سواء في هذه المعاملة. كما لا يمكن أبداً ربط هذه الأرقام بالأحزاب السياسية، فقد حكم الحزب الديمقراطي غالبية العقد الأخير، وللمفارقة فقد كان الرئيس من ذوي البشرة السمراء أيضاً! ولعل الاطلاع على مزيد من الأرقام يؤكد عدم وجود رابط فعلي بين الحزب الحاكم والفجوة الاقتصادية العرقية، فمنذ 1992 حتى 2016 حكم الولايات المتحدة رئيسان جمهوريان وآخران ديمقراطيان، وخلال هذه الفترة زاد الفارق في الدخل بين العرقين الأبيض والأسود من 100 ألف إلى 154 ألفاً، وصاحب هذه الفترة تحسن اقتصادي للولايات المتحدة بشكل عام، حيث زاد دخل الأسرة المتوسطة من 83 ألفاً إلى 97 ألف دولار، ومع ذلك فإن الفجوة في الدخل والثروة بين العرقين اتسعت بشكل كبير.
وحتى مع التحسن الاقتصادي وانخفاض معدل البطالة في فترة الرئيس ترمب إلى ما يقارب 3.5 في المائة، فإن بعض الأحياء المسكونة من الأعراق الملونة يصل فيها معدل البطالة إلى أكثر من 15 في المائة. وكارثة كورونا كانت كالزيت على النار في هذه المشكلة، ففقد معظم موظفي الخطوط الأمامية وظائفهم، وكثير من هؤلاء من أصحاب البشرة السمراء ممن يعملون بالحد الأدنى للأجور. وأثرت هذه الجائحة عليهم لتصل نسبة البطالة لديهم إلى أكثر من 17 في المائة، مقابل 14 في المائة للبيض.
وقد أوضحت دراسة لماكينزي أن الولايات المتحدة إن استطاعت أن تغلق هذه الفجوة العرقية الاقتصادية، فإنها تستطيع أن تضيف بين 4 في المائة و6 في المائة إلى ناتجها القومي بحلول عام 2028، أي ما يقارب تريليون دولار. وقدمت جامعة بيركلي الأميركية دراسة مفادها أن غلق هذه الفجوة يكون بالاستثمار بالتعليم في الأحياء المسكونة من الطبقة الفقيرة، ومحاولة إزالة الحواجز السكنية بين طبقات المجتمع المختلفة، وتشجيع العوائل على الادخار وبناء الثروة من خلال برامج مصرفية مستهدفة، وتغيير الأنظمة الضريبية المرتبطة بالطبقة المتوسطة والفقيرة.
إن اختلاف الفرص الاقتصادية القائم على التفرقة العرقية لا يتعارض مع المبادئ والإنسانية فحسب، بل هو ضار على الاقتصاد بشكل مباشر، والولايات المتحدة نفسها استفادت من إضافة ذوي الأصول الأفريقية للاقتصاد بعد إقرار قوانين مكافحة العنصرية منتصف الستينات. ومحاربة هذه العنصرية ليست معنية بالولايات المتحدة فحسب، بل على الدول جمعاء، فاستمرار فقر طبقة معينة من المواطنين في وقت يتحسن فيه الاقتصاد بمجمله ضار على البلاد من عدة جوانب؛ منها أن هذه الطبقة ستصبح عائقاً على البلد في التقدم الاقتصادي، ومنها - وهو ما نشاهده اليوم - أن هذه الطبقة ستبقى مشحونة بشكل دائم وجاهزة للانفجار في أي وقت، وهي تشاهد تحسن المستوى المعيشي لدى المواطنين، فيما تقبع هي دون هذا المستوى لا لشيء، إلا لعرقها.