هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

«كورونا» لم يقضِ على التوازن العالمي للقوة

هل انتهى التوازن العالمي للقوة بعد ظهور «كوفيد - 19»؟ من السهل التعرف على السبب وراء اعتقاد بعض المراقبين الأذكياء ذلك. لقد تسبب الوباء في جعل بعض أكبر دول العالم أشد ضعفاً من بعض أصغر دول العالم. وكشف الوباء أن بعض التهديدات لا يمكن احتواؤها من دون التعاون عبر خطوط جيوسياسية وآيديولوجية. وبذلك، تفاعل فيروس «كورونا» مع الأمل الأميركي القائم منذ أمد بعيد في أن تتلاشى الحقائق الكئيبة للواقع الجيوسياسي لتفسح الطريق أمام شيء أفضل.
إلا أنه للأسف الشديد، تقف هذه الآمال على وشك التحطم. في الواقع، الأزمة الحالية ليست حجة لتجاوز الواقع الجيوسياسي، إنما تذكرنا بأن الحفاظ على توازن جيد، بحيث يجري في إطاره كبح جماح أطماع العناصر العدوانية من جانب العناصر الأكثر خيراً، يعتبر السبيل الوحيد لتحقيق التعاون والاستقرار الدوليين، تبعاً لشروط يجدها الأميركيون مقبولة.
أما الحجة القائلة بأن فكرة توازن القوة تتحول إلى شيء من الماضي، فتعتمد على الفكرة التالية؛ ليس باستطاعة القوى العسكرية إنقاذ الدول من الآفات العابرة للحدود، مثل الأوبئة. وهناك عدد متزايد من القضايا (الإرهاب والأمراض والتغييرات المناخية) تهدد الدول في مختلف أرجاء العالم. وبالنظر إلى الاضطراب الذي أصاب الحياة اليومية للأميركيين بسبب «كوفيد - 19» بدرجة أكبر من أي تهديد أمني آخر منذ الحرب العالمية الثانية، يبدو من المنطقي منح الأولوية للتعاون الدولي عن دوافع المنافسة الجيوسياسية.
من ناحيته، قال ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية: «اليوم وعلى مدار القرن المقبل، ستكون غالبية التهديدات الخطيرة التي نواجهها أقل ارتباطاً بالدول، وأكثر ارتباطاً بمجموعة من المشكلات العابرة للحدود».
ويتفق وزير الخزانة السابق لورانس سومرز مع الرأي القائل بأنه خلال العقود المقبلة «يعتمد الأمن بدرجة أكبر على التعاون مع الحلفاء والخصوم على حد سواء، عن الإبقاء على توازن للقوى». ومن جانبه، أشار بيتر بينبارت، من «ذي أتلانتيك»، إلى أن وباء فيروس «كورونا» كشف أن «سلامة الأميركيين العاديين غالباً ما يكون من الممكن حمايتها بصورة أفضل من خلال تكثيف التعاون الدولي عن تعزيز السيادة الوطنية».
ربما تبدو تلك بمثابة حجة جديدة جريئة، لكنها في واقع الأمر تحمل أصداء حجة قديمة. لطالما شعر الأميركيون بالحيرة والتخبط إزاء التوازن العالمي. لقد كانوا ماهرين، بل أشداء في التعامل مع سياسات القوة. فعلى امتداد تاريخها، حشدت الولايات المتحدة نفوذاً أكبر من أي دولة أخرى. ومع ذلك، فإنه مع كل أزمة عالمية كبيرة على مدار الأعوام الـ100 الأخيرة، أعرب أميركيون بارزون عن أملهم في التخلي عن الأساليب القديمة للحكم والسياسة.
على سبيل المثال، في خضم الحرب العالمية الأولى، أشار الرئيس وودرو ويلسون إلى أن توازن القوى الذي انهار على نحو كارثي عام 1914 يجب أن يحل محله «مجتمع من القوة» من أجل السلام والتعاون.
وفي عام 1945 أعلن الرئيس فرانكلين روزفلت بزوغ فجر الأمم المتحدة باعتبارها «نهاية نظام العمل الانفرادي والتحالفات الحصرية ونطاقات النفوذ وتوازنات القوى وجميع العناصر الأخرى التي جرى تجريبها على مدار قرون».
وعندما انتهت الحرب الباردة، جاء دور الرئيس جورج إتش دبليو بوش لأن يطلق وعداً بـ«نظام عالمي جديد يحل في إطاره حكم القانون محل حكم الغابة». وبعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، ومن جديد بعد الأزمة المالية 2008 - 2009. كانت هناك آمال في أن تسهم الأخطار المشتركة، سواء الإرهاب أو الانهيار الاقتصادي، في دفع القوى الكبرى نحو التقارب بعضها من بعض، وليس التباعد.
ويعكس هذا الميل نزعة «يوتوبية» واضحة في الفكر الأميركي. كما يعتبر بمثابة اعتراف بأن الصراعات الجيوسياسية، في كثير من الحالات، أدت إلى كوارث. إلا أنه في النهاية تبقى نزعة غير واقعية، بل ساذجة. ذلك أنه ليس هناك مفرّ من عالم يقوم على توازن القوى، ومحاولة الهروب من هذه الحقيقة لن تحقق أياً من الأمن أو التعاون.
جدير بالذكر في هذا الصدد أن الدول الكبرى في العالم لا تخشى جميعها الأخطار نفسها، أو ترغب في الأمور ذاتها. ولا بد أنه أصبح واضحاً تماماً اليوم أن لدى كل من الولايات المتحدة والصين تطلعات ورؤى عالمية متباينة، الأمر الذي يعكس بدوره الاختلاف الشديد بين مصالحهما الوطنية وأنظمة الحكم فيهما.
ويتمثل السبيل الوحيد في ضمان أن تسود الرؤية الأميركية للحرية الشخصية وحكم القانون في ضمان أن يميل ترتيب القوى الجيوسياسية لصالح واشنطن، وليس النموذج الاستبدادي الذي تمثله بكين. بمعنى آخر، فإن هؤلاء الذين يتعاملون مع المنافسة باستهتار سيجدون عما قريب أنفسهم تحت رحمة أولئك الذين يتعاملون مع المنافسة بجدية.
وتعتبر الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى نموذجاً كلاسيكياً على ذلك، فقد كان النظام الدولي الذي تأسس في فرساي، وقت تأسيسه، أكثر الأنظمة التي جرى تصميمها تقدمية على الإطلاق. وضمّ بين جنباته آليات جديدة مبتكرة، مثل عصبة الأمم، وذلك لتناول القضايا ذات الاهتمام المشترك.
ومع ذلك، انهار النظام في غضون جيل واحد، وسقطت معه الآمال في التعاون الدولي وتحقيق مستوى أساسي من الأمن الدولي. أما السبب فيعود إلى أن النظام قابل تحديات من جانب قوى رجعية (ألمانيا واليابان وإيطاليا بصورة أساسية) رغبت في إدخال تعديلات راديكالية على الوضع القائم. أما الذين واجهوا احتمال التعرض للخسارات الأفدح جراء تلك التغييرات فجاءت ردود فعلهم بطيئة.
أما الدرس المستفاد هنا فهو أننا نقف من جديد على شفا حرب عالمية. ورغم أنه ليست كل أزمة جديدة تحمل في طياتها إمكانية إعادة سيناريو الثلاثينات من جديد، فإن الصراع والتنافس عنصران جوهريان في الشؤون الدولية، وإغفالنا ذلك ينطوي على خطورة شديدة لنا.
أيضاً، نضرّ بأنفسنا عندما نصوغ توازن القوى باعتباره نقيض التعاون الدولي. في الواقع، لا شيء يخلو من السياسة في الشؤون الدولية. والمعروف أن المؤسسات التي تنظم الدول من خلالها العمل الجماعي تصوغها ديناميكيات القوى الجيوسياسية. وغالباً ما يجري النظر إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي باعتبارهما أدوات للسياسات الأميركية، ليس لأنهما يلتزمان دوماً توجيهات الولايات المتحدة، وإنما لأنهما عمادا هيكل عالمي يميل لصالح واشنطن. وبالتأكيد فإن الدولة أو الدول التي يميل لصالحها توازن القوى ستملك قدرة أفضل على التفاوض بخصوص الشروط التي تتعاون تبعاً لها مع الآخرين.
وتكشف أزمة «كوفيد - 19» عن هذا الأمر بوضوح شديد، فقد استغلت الصين نفوذها المتزايد في الاستئساد على منظمات مثل منظمة الصحة العالمية والفوز بصمت أو إذعان دول تعتمد على مالها وحسن نواياها. وعليه، فإن هذه الأزمة بمثابة تحذير من أنه حال إهمال الولايات المتحدة لتوازن القوى، فإن حدود العمل الدولي لتناول المشكلات العالمية سيرسمها الآخرون.
في الواقع، مجرد حديثنا عن نزع التأكيد عن توازن القوى ينطوي على مفارقة صارخة، بالنظر إلى تفضيل البيئة العالمية الحالية للولايات المتحدة. في الواقع، الهيمنة الجيوسياسية التي لطالما تمتعت بها واشنطن وحلفاؤها لفترة طويلة تمنحهم رفاهية عدم معرفة شعور العيش في عالم تصوغه هيمنة شخص آخر!
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»