عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

أولويات السلطة الرابعة

شبه استياء عام أثارته الوسائل الصحافية البريطانية، مقروءة ومسموعة ومرئية، أفقد رئيس الحكومة بوريس جونسون 19 في المائة، من شعبيته، بينما كسب زعيم المعارضة، كيير ستامر، 7 في المائة في الاستطلاعات نفسها. وراء انخفاض شعبية جونسون تمسكه بمستشاره للاستراتيجية السياسية، دومينيك كمينغز، والدفاع عنه أمام المطالبين بإقالته. «جريمة» كمينغز، في نظر الصحافة، هي خرق أهم إجراءات مكافحة الوباء التي فرضتها حكومة يعمل بها. يفترض عزلة من يصاب بـ«كوفيد - 19»، وأسرته، لأسبوعين، تجنباً لنشر العدوى. عندما مرضت زوجته اصطحبها وطفلهما بسيارته إلى دار والديه على بعد مائتي ميل، بحجة رعاية الجدين للطفل، وبالفعل أصابته العدوى من زوجته بعد أيام.
ولسنا هنا بصدد إصدار الأحكام ماذا كان خرق القانون، أو لجأ لثغرة فيه، بتبرير رئيس الوزراء ووزيري الصحة والمواصلات، بتوفيره رعاية للأطفال في حالة مرض الوالدين، بل لدراسة أداء السلطة الرابعة وتأثيره على المؤسسة السياسية، والرأي العام. الرأي العام محكمة، والحكومة في قفص الاتهام؛ إما تفصلها، أو تجدد عقد الوظيفة في صناديق الاقتراع.
هناك مستشارون استقالوا لخرقهم إجراءات الحجْر مثل مفتشة الصحة العامة في اسكوتلندا، عندما تركت عزلة مسكنها لتفقد عقار تمتلكه على بعد ساعتين بالسيارة، كما استقال مستشار للحكومة لإحصائيات الأمراض المعدية، بعد كشف الصحافة زيارتين له من صديقته أثناء الحجْر الصحي عقب إصابته بالفيروس. دفاع الحكومة عن مستشارها السياسي ركز على اختلاف ظروفه عن الحالتين السابقتين، لتحججه بانعدام وجود أقارب لرعاية الطفل ابن الرابعة أثناء مرضه وزوجته.
البعد السياسي أن الغالبية العظمى من المطالبين بإقالة كمينغز هم خصوم الحكومة سياسياً. كمينغز كان مهندس استراتيجية دعاية حملة الخروجيين من الاتحاد الأوروبي، ودعاية الحملة الانتخابية، والمطالبون باستقالته من البقائيين الموالين للاتحاد الأوروبي. وهذا أحد أسباب تمسك رئيس الوزراء بمستشاره، لأن الحكومة انتخبت بأكبر أغلبية في ثلاثة عقود على مانيفستو تنفيذ الخروج من الاتحاد الأوروبي.
هناك سبب آخر، بدهاء الساسة، فتركيز الصحافة على كمينغز يحول اهتمام الرأي العام عن تقصير الحكومة، الذي تسبب في موت الآلاف بالفيروس، خصوصاً في دور العجزة والمسنين، فأرقام الوفيات البريطانية هي الأعلى في أوروبا، والثانية في العالم بعد الولايات المتحدة التي يبلغ عدد سكانها 333 مليوناً و546 ألفاً، قرابة 5 أضعاف بريطانيا (76 مليوناً و851 ألفاً)، ما يجعل نسبة وفيات بريطانيا (558) لعدد السكان تفوق الولايات المتحدة (309). وهناك فارق 10 آلاف حالة وفاة بين أرقام المصلحة القومية للإحصاء وأرقام وزارة الصحة البريطانية.
هناك تضارب في الأرقام الرسمية، وتقصير الحكومة في توفير المعدات وتأخرها في تطبيق البرامج الوقائية، مثل نظام متابعة العدوى عن طريق التليفون الذكي، بدأ هذا الأسبوع، لكنه لم يعمل بكفاءة مثيلة في بلدانٍ أداؤها كان أفضل في مكافحة الوباء. أسئلة لم تطرحها السلطة الرابعة، خصوصاً أن البرلمان في عطلة. ركز الصحافيون، بعقلية القطيع، على محاصرة كمينغز واستجواب رئيس الحكومة عن عدم إقالته. في المؤتمر الصحافي اليومي من 10 داوننغ ستريت، الذي يتناوب الوزراء ومسؤولو الصحة على إجابة الصحافيين فيه، كرر كل صحافي السؤال نفسه طوال الأسبوع عن رحلة المستشار السياسي إلى منزل والديه، بدلاً من أسئلة عن تقصير الحكومة، أو خطتها التي تبدأ بعد أيام بفتح المدارس تدريجياً، والعودة إلى النشاط المعتاد.
جونسون وحكومته بالطبع يرحبان بمطاردة قطيع الصيد الصحافي للفريسة بدلاً من مساءلة الحكومة عن تقصيرها المتسبب في وفاة الآلاف.
من زاوية أخرى، تزامن كشف الصحافة لتنقلات كمينغز مع بدء الحكومة تخفيفاً تدريجياً لبعض قيود الحجْر الصحي، مع ضرورة التزام المواطنين بالقيود الأساسية كمسافة مترين بين الأشخاص، وتحديد عدد المجتمعين في زيارات أو حفلات، ووضع الأقنعة عند التنقل في وسائل المواصلات المزدحمة. التطور أن تطبيق الإجراءات ينتقل من السلطة القانونية، كالبوليس ومفتشي البلديات، إلى المواطنين، لأنها «إرشادات» من وزارة الصحة، وليست «كالتعليمات» السابقة التي يدفع مخالفها غرامة. تطبيق القانون في بريطانيا، منذ تأسيس البوليس في 1829 كمشروع لوزير الداخلية وقتها السير روبرت بييل Peel) (1850 - 1788) )، وأصبح رئيساً للوزراء مرتين، يتم بما يعرف بـ«ـpolicing by public consent»، أي الخضوع للقانون بإجماع الناس. كلمة «police» هي اسم وفعل ضمن معانيه: يحدد، ويحرس، ويراقب، وتتجاوز المعاني والتطبيقات لها الترجمة، بالصدفة، «الشرطة» (من «الشورط» البنطلون القصير زي البوليس في العهد الكولونيالي والانتداب في الشام وفلسطين). نركز على التعريف لأن البوليس، بمعاني الكلمة الأصلية في بريطانيا، لا يحمل سلاحاً (باستثناء مجموعات قليلة للحراسة الاستراتيجية وحالات خاصة بتصريح قضائي مؤقت)؛ فبلا تراضي المواطنين لا تستطيع إدارات البوليس الثماني والأربعون في المملكة المتحدة تطبيق القانون والتعليمات كإجراءات عزلة «كورونا».
ولذا عندما تصبح شخصية في موقع المسؤولية قدوة سيئة بخرقها «تعليمات» الحجْر الصحي، فإن مئات الآلاف، سيقولون «اشمعنى كمينغز؟»، ويرفضون اتباع الإرشادات. اتباع الغالبية الساحقة من البريطانيين للتعليمات، ساعد على الحد من انتشار الوباء، رغم تقصير الحكومة في الاستعداد للوباء مبكراً، وهو مثل تطبيق البوليس للقانون، يعتمد على التراضي بثقة المواطنين بالحكومة التي انتخبوها. فقدان المصداقية يعني فقدان الثقة الضرورية في مرحلة «الإرشادات»، ما يؤدي لفقدان السيطرة على سبل الحد من انتشار الوباء.
هل تتعمد الوسائل الصحافية التشكيك في مصداقية الحكومة، أم أنها قصرت في أداء مهمتها؟
الإجابة نعم ولا. صحافيون مؤدلجون؛ وآخرون يتبعون مزاج غالبية قرائهم ومستمعيهم؛ ومراسلون حولهم التلفزيون «نجوماً»، معظمهم رافضون برامج حكومة جونسون، ويريدون البقاء في الاتحاد الأوروبي. الصحافيون لا ينسقون مسبقاً، أو يتآمرون، لكن مستوى المهنة تدنى، والأجيال الشابة متسرعة، وسهولة التكنولوجيا أصبحت حافزاً لسبق الزملاء المنافسين على حساب الحقائق والموضوعية.
خيب الصحافيون أمل القراء والمشاهدين بحشد طاقتهم لمطاردة فريستهم المستشار كمينغز، متجاهلين قضية أهم، وهي محاسبة الحكومة على تقصير وإهمال لا يغتفران. لكن أخطاء الصحافيين هي الوجه الآخر لعملة حرية الصحافة واستقلالها. فسلطة رابعة حرة، تتكرر أخطاؤها، أفضل من صحافة «مثالية» تفقد استقلاليتها، وتطوع جهودها لشعارات شمولية «كخدمة المجتمع»، وتأدية «الواجب الوطني»، لتصبح أداة لمن اخترع هذه الشعارات، أو الأسوأ حبس الصحافة نفسها في زنزانة الرقابة الذاتية.