د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

قصة مصرية

حاولت دائماً أن أجعل مقالي لـ«الشرق الأوسط» الغراء مخاطباً للقضايا العربية؛ لكن من وقت إلى آخر فرضت أمور مصرية نفسها، وأظن أنها تلقى اهتمام القراء من الدول العربية؛ لأنها عادة مثيرة ولما لمصر من محبة. وهذه المرة، فإن المقال يأتي أثناء أيام عيد الفطر المبارك أعاده الله على الأمتين العربية والإسلامية باليُمن والبركات؛ حيث يغالب العيد ومشاعره الطيبة حالة الإغلاق التام المصاحبة لجائحة «كورونا» اللعينة. بعض من القصص المصرية قد يكون مسلياً، وعلى الأرجح أنه سوف يكن داعياً للتفكير إذا ما بدا أنه يتعدى حدود مصر إلى أشقائها من العرب. والقصة وردت خلال الأشهر الماضية وطرفاها ممن يسمون في المحروسة من أصحاب «القيمة والقامة»، الشيخ الكبير علي جمعة مفتي الديار المصرية الأسبق، وأحد الأئمة الذين تخطت بركاتهم الوعظ والإرشاد المعتدل والوسطي للشريعة الإسلامية، إلى العمل من أجل الخير في مؤسسات تكفل اليتيم، وتعين الضعيف، وتقيم سقوفاً لمن لا سقف له في قرى مصر الفقيرة. وفوق ذلك كله هو نجم تلفزيوني جعل من حلاوة الحديث تقليداً ومن اللباس الديني تعبيراً عن الأناقة وحسن الاختيار وانسجام الطلعة. الآخر هو الدكتور زاهي حواس، وزير الآثار الأسبق وأحد علماء مصر المعدودين أصحاب الشهرة العالمية في مجال الآثار المصرية القديمة، والذي فضلاً عن اكتشافاته الخاصة التي وضعته جنباً إلى جنب مع كبار المكتشفين العالميين، فإنه بالتأليف الكثيف والظهور المستمر في البرامج التلفزيونية العالمية (ديسكفري والتاريخ)، صار عنواناً لمصر أمام قادة دول العالم من الرئيس باراك أوباما إلى ميلانيا زوجة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وله «براند» عالمي في القبعات والملابس ومكملاتها لمظهر العلماء والمكتشفين. وعندما يكون طرفا القصة بهذه المؤهلات فإنها لا تؤخذ فقط من تطوراتها المثيرة، وإنما أكثر من ذلك ما وراءها من مناظرة فكرية مصرية، ومن يعلم عربية أيضاً، لا يمكن تجاهلها.
تفاصيل القصة بسيطة، وبقدر ما كانت البداية منذرة، فإنها كما يحدث كثيراً في الأفلام المصرية انتهت نهاية سعيدة حتى ولو كان التناقض الأساسي لم يصل إلى حل كما هي العادة. الأستاذ الدكتور الفقيه الأنيق علي جمعة كانت لديه طلقة البداية عندما في واحدة من طلاته التلفزيونية دخل مباشرة وبشجاعة إلى التاريخ المصري القديم، ومن بدايته الأسطورية عندما ولدت مصر على يد الثلاثية التي تضم الإله أوزوريس وزوجته إيزيس وولدهما حورس. أراد عالم الدين أن يربط الزمن مع الدين فيستقيم التاريخ ويعتدل عندما يكون الإله المصري القديم هو النبي إدريس عليه السلام. وأكثر من ذلك، فإن نبينا كان هو الذي علم المصريين القدامى فن بناء الأهرامات، فقامت على يديه الكريمتين العجيبة الباقية من عجائب الدنيا السبع: أهرامات الجيزة الثلاث. المغامرة الفكرية استمرت عندما ذكر في حديث تلفزيوني آخر أن الملك رمسيس الثاني - أحد عظماء ملوك مصر في العصر الفرعوني الوسيط والذي أقام المسلات والمعابد وأشهرها الكرنك - كان هو فرعون مصر الذي غرق إثماً في البحر هو وجنوده، وجاء ذكره في الكتب المقدسة ساعة خروج العبرانيين على يد النبي موسى عليه السلام.
هكذا دخل عالم الدين إلى عالم التاريخ الفرعوني الذي يقيم فيه الأستاذ الدكتور زاهي حواس مؤلفاً وباحثاً ومكتشفاً وعالماً، ولما كانت نوافذه إلى الرأي العام ممتدة من الصحافة إلى التلفزيون فإنه واجه بقوة ما رواه عالمنا الديني الكبير باعتباره بلا سند علمي ولا تاريخي، ولا يجوز هكذا أن تأتي الإبل إلى مواردها. لم يختر الدكتور حواس الصمت في لحظة بدا العلم فيها يتعرض لاختبار صعب؛ أو أن يقبل ما جرى عليه العرف بالفصل ما بين ما هو علمي، وما هو ديني؛ ومن بعدهما عالم العلم، وعالم الدين، فالأول مادي والآخر روحي، والفصل بينهما من حسن الفطن. عاد رجلنا إلى ما يعرفه رأي العين ولمسه بالأصابع في الحفريات والمعابد وأوراق البردي ولفائف المومياوات، فلم يكن هناك للنبي إدريس دور في بناء الأهرامات، ولم يكن رمسيس الثاني هو فرعون مصر ساعة الخروج الكبير للعبرانيين، وأضف إلى ذلك أن أياً من الأنبياء الذين جاء ذكرهم على لسان الشيخ الجليل لم يكن له أصول ولا ذكر فيما وصل إلينا من عصور الفراعنة. أصبحت المواجهة لاسعة عندما وجد الشيخ العالم أن المصادر المادية للمعرفة لم تقل لنا كل القصص، وما كان منها خافياً لا يزال أكبر بكثير مما نعرفه وورد في الكتب المقدسة. لم يستند صاحبنا إلى التقاليد الغربية التي قامت على الفصل ما بين القصة «التاريخية» للتاريخ وما تستند إلى من آثار ووثائق، والقصة «الدينية» التي تعتمد على ما ورد في النصوص من حقائق لا تعرف الباطل.
جرى الاشتباك اللفظي بأدوات التعبير المختلفة بين العالم الديني وعالم الآثار، وكانت فيه جروح غير دامية خصت مدى الغرام بالأحاديث التلفزيونية، لكنها انتهت عندما تجمع أصدقاء للطرفين يعرفون ما عليهما من قيمة ومقام لكي يصلحا بينهما.
انتهت المنازعة وكان الصلح خيراً في عشاء سلام - للأسف لم أدعَ إليه - قدمه بكرم بالغ صديقي السفير الدكتور مصطفى الفقي، رئيس مكتبة الإسكندرية والمفكر الكبير والكاتب المرموق. وللأسف لم يفصح أحد على غير المعتاد في مثل هذه المواقف التي تكثر بعدها الحكايات عما جرى فيه من أحاديث العتاب والوئام. افتقد التاريخ لحظة لا تعبر فقط عن أطرافها وما أتى منهم من تفكير وأفكار، وإنما تلقي الضوء على بعض من قضايانا الشائكة. والحقيقة أن حضور العشاء كان ضرورياً لتسجيل لحظة تاريخية في مناظرة كبرى حول مصدر المعرفة، وهل هي في النهاية تسليم أم تقدير؟ هو سؤال فلسفي قديم جاء في السطور الأولى من كتاب أفلاطون «القوانين» حول مصدر القانون، وهل يأتي من الآلهة أم من الإنسان؟ السؤال الموازي في قصتنا الراهنة عن مصدر التاريخ وعما إذا كان تفسيراً ومواءمة لما جاء في الكتب الجامعة على ضوء ما نراه الآن فنفهم الكلمات ونعرفها ونعيدها إلى قصص تاريخي محكم؛ أو أننا أعلم بشؤون دنيانا التي نبحث فيها عن الأصول والمراجع واللفائف والمخطوطات والوثائق. الأولى تقرب وتوصل الحكمة لأذهان البشر، والأخرى تقرب اليقين والمعرفة للإنسان.
وكما يقال في الأزمات وعما إذا كانت كاشفة أو منشئة، فإن القصة بالتأكيد كاشفة عن معضلات أكبر من الواقعة التي انتهت ساعة العشاء في سرور وحبور؛ أو القصة المصرية، ومن يعلم العربية، التي تدور حول أمور كبيرة بين التقليد والحداثة، والتفكير والتلقين، والأصالة والمعاصرة. وإذا كان القارئ الكريم يريد أن يعرف أين سيكون موقف كاتب المقال بين العالمين جمعة وحواس، فإن الأمر ربما يحتاج إلى مقال آخر؛ فهذه أيام رحمة لا يجوز فيها الولوج في قضايا معقدة. وكل عام وأنتم بخير.