كثيراً ما قيل إن كل أديب يكتب نفسه في أعماله، أو على الأقل في عمل من أعماله. لدينا في أدبنا العربي المعري، كتب نفسه ومحنته في قصائده. وعندما كنت أترجم إلى العربية في الستينات مسرحية الكاتب الألماني برتولد بريخت «غاليليو» لاحظت أن في هذه المسرحية انعكاسات كثيرة من حياة المؤلف ومواقف من حياته الخاصة. بل إن هذه المسرحية هي في الواقع سرد لحياة ذلك العالم الرياضي والفلكي الكبير غاليليو غاليلي.
ظهر غاليليو في إيطاليا في القرن السابع عشر، في زمن كانت الكنيسة في روما تؤمن بأن الأرض منبسطة ومسطحة، وأن الشمس كانت تدور حولها فتصعد من الشرق وتنزل وتختفي عند المساء في الغرب. وكانت الكنيسة تعاقب كل من يناقض ذلك وأحرقت العلماء الذين تحدوا مقولتها.
كان من بينهم غاليليو. كان عالماً كبيراً فلم تجرؤ الكنيسة على إعدامه كما فعلت مع الآخرين، بل ساومته على الاعتذار عما كتب. ففعل ذلك وتراجع عن رأيه بكروية الأرض ودورانها حول الشمس. عفت عنه الكنيسة ولكنه واصل سراً كتابة آرائه وتهريبها للخارج. اتهموه بالمساومة فقالوا: «ويلاه للبلد الذي يفتقر إلى الأبطال». فأجاب وقال: «بل يا ويل للبلد الذي يحتاج إلى أبطال».
كان هذا موقف بريخت في عصرنا هذا. فعندما تسلم النازيون الحكم في ألمانيا وبدأوا بتصفية الشيوعيين واليساريين، لم يحاول بريخت أن يقف ضد النازيين ويتحدى، بل هرب إلى الغرب وتفدى. التجأ إلى الولايات المتحدة، قلعة النظام الرأسمالي. انتقده بعض رفاقه من اليساريين. وأعطاهم جوابه في مسرحية غاليليو؛ اسلم واعمل بدلاً من أن تهلك وتزول.
كرر هذا الموقف بعد الحرب العالمية الثانية. رحل من قلعة الرأسمالية، أميركا، حيث كان يعمل والتحق بقلعة الشيوعية، ألمانيا الشرقية. وهناك في برلين الشرقية أقام مسرحه الكبير وراح يخرج مسرحياته. لحسن الحظ، مات بعد سنوات ولم يشهد سقوط الشيوعية التي آمن بها. انتقده الكثيرون على موقفه الانهزامي واستعداده للمساومة؛ اسلم واعمل بدلاً من أن تهلك وتزول.
وهو ما فعله غاليليو غاليلي وسار بخطاه برتولد بريخت. تعايش مع النظام الرأسمالي ثم تعايش مع النظام الشيوعي. خذ وطالب، كما كان الحبيب بورقيبة يقول.
TT
غاليليو وبريخت
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة