هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

التنافس مع الصين قد يعيد أميركا إلى زمن الانقلابات

تشير جميع الدلائل إلى أن الحكومة الأميركية لم تكن متورطة في المخطط للإطاحة بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، هذا الشهر. في الواقع، يأمل المرء أن تبلي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه.) بلاءً أفضل عن المشاركة في مخطط هزلي تبرأت منه المعارضة الفنزويلية واخترقته قوات الأمن التابعة للنظام وأحبطته بمجرد أن بدأ.
ومع هذا، يدعونا هذا الحدث التافه إلى التفكير بجدية بشأن دور التدخلات السرية وجهود تغيير النظام في إطار السياسات الأميركية. ومثلما سعت واشنطن لتقويض أو إسقاط أنظمة غير صديقة أثناء الحرب الباردة، فإنها ربما تتطلع من جديد نحو مثل هذه السبل في خضم التنافس المحتدم الذي يزداد اشتعالاً يوماً بعد آخر مع الصين. بالتأكيد سيكون من الضروري توخي الحذر، فالتاريخ يخبرنا أنه رغم أن التدخل السري أحياناً يشكل أداة تنافسية فاعلة من حيث التكلفة، فإنها في الوقت ذاته مفعمة بالمخاطر والمقايضات الأخلاقية العميقة.
بلغت النشاطات السرية مرحلة النضج خلال الحرب الباردة. أواخر أربعينيات القرن الماضي، عندما ولدت سي. آي. إيه. ومجلس الأمن الوطني، شرعت الولايات المتحدة في تنمية قدرات عالمية للتدخل تحت غطاء من السرية. وعلى امتداد العقود التالية، سعت لزعزعة استقرار أو إحلال حكومات جديدة محل أخرى كانت قد بدأت في الانزلاق نحو دائرة النفوذ السوفياتي، أو بدأت في تمهيد الطريق أمام تصاعد النفوذ الشيوعي ببلدانها.
ولم تفعل الولايات المتحدة ذلك مجاناً، أو لحماية الاستثمارات الأجنبية بالخارج، وإنما لجأت إلى الأعمال السرية، لأن قياداتها اعتقدت أن التوازن الجيوسياسي هش للغاية، وأن الولايات المتحدة بحاجة إلى أدوات للتنافس يمكن تحمل تكاليفها. ونظراً لأن شن مثل هذا الصراع في مواجهة عدو شرس داخل مسرح العالم الثالث، الذي غالباً ما افتقد الاستقرار تطلب استخدام أساليب قذرة في القتال، كان يتحتم على أميركا تنفيذ تلك العمليات السرية على نحو هادئ، ويجعل من المتعذر نسبها إليها.
ونجحت سي.آي.إيه. في اسقاط، أو المعاونة في اسقاط حكومات في غواتيمالا وإيران خلال الخمسينات. وخاضت صراعاً خلف الكواليس من أميركا الوسطى حتى جنوب القارة الأفريقية إلى أفغانستان حتى نهاية الثمانينات. وفي غالبية الحالات، قوضت واشنطن أنظمة شيوعية أو استبدادية غير صديقة لها. ومع هذا، استهدفت كذلك قادة منتخبين ديمقراطياً مثل سلفادور ألليندي في تشيلي، الذي اعتبرت واشنطن أنه انحاز إلى الطرف الخطأ في الحرب الباردة.
وخلص تقرير سري صادر عن سي.آي.إيه، عام 1954 إلى أنه: «نواجه عدواً عنيداً يتمثل هدفه المعلن في الهيمنة على العالم. في مثل هذه اللعبة، ليست هناك قواعد. وعليه، فإن الأعراف المقبولة للسلوك الإنساني لا تنطبق هنا».
وقد كشفت هذه العبارة ذاتها السبب وراء شعور الكثير من الأميركيين بأن العمليات السرية تثير الحرج ـ بل وتستوجب التوبيخ من الناحية الأخلاقية. جدير بالذكر أن سي.آي.إيه، تعرضت لصفعات قاسية خلال السبعينات، عندما جرى تسليط الضوء على دورها في تشيلي وجهودها لاغتيال قادة أجانب.
بعد الحرب الباردة، تراجعت أهمية عمليات التدخل السري. وتبعاً لتقارير منشورة، سعت الولايات المتحدة نحو خيارات معلنة لإسقاط الرئيس العراقي صدام حسين وعدد من الأعداء اللدودين الآخرين. إلا أنه مع غياب التهديد السوفياتي، تراجعت الدوافع الجيوسياسية للمنافسة على النفوذ بكل مناطق العالم.
في تلك الأثناء، كان من شأن انتشار رقعة الديمقراطية وصعود أدوات معلنة للترويج لها، مثل مؤسسة «الوقف الوطني للديمقراطية» (ناشونال إنداومنت فور ديمكراسي) شبه المستقلة، منح الولايات المتحدة سبلاً أقل ضبابية من الناحية الأخلاقية لصياغة نتائج سياسية. لماذا ترسل واشنطن عملاء سريين للتأثير على نتائج انتخابات في جورجيا أو أوكرانيا، بينما في استطاعتها إرسال منظمات غير حكومية أو مراقبي انتخابات بدلاً عن ذلك؟ ومثلما قال ألين وينستاين، مؤسس «الوقف الوطني للديمقراطية»: «الكثير مما نفعله اليوم كان يجري تنفيذه سراً منذ 25 عاماً ماضية من جانب سي.آي.إيه».
ومع ذلك، لم يصبح الأمر أكثر سهولة اليوم، ولم يعد باستطاعة المسؤولين الأميركيين انتظار الصعود الحتمي لعالم أكثر ديمقراطية وصداقة تجاه واشنطن، وذلك بسبب احتدام المنافسة بين الولايات المتحدة والصين (وبدرجة أقل مع روسيا) والتي بدأت رقعتها الجغرافية تتسع. وفي غضون سنوات قليلة من الآن، ربما تجد واشنطن نفسها مضطرة إلى السعي بدأب خلف خيارات سرية، للحيلولة دون تحالف دول مهمة بمنطقة الصحراء الكبرى أو الشرق الأوسط أو جنوب شرق آسيا مع بكين.
وإذا بدت تلك الفكرة لك بعيدة الاحتمال، ليس عليك سوى إمعان النظر في حجم الاحتدام السريع في المنافسة، بين الولايات المتحدة والصين خلال السنوات الثلاثة الماضية، وإلى أين قد يؤدي هذا المسار خلال عقد آخر. أو ربما عليك تذكر أن صانعي السياسات داخل الولايات المتحدة نهاية أربعينات القرن الماضي ربما لم يتخيلوا قط أن أميركا ستشن صراعاً سرياً معقداً حول أنغولا بعد ربع قرن. في الواقع من بين القواعد الدائمة للسياسات الدولية أن المنافسة الاستراتيجية تدفع الدول نحو أماكن ومواقف، ربما لم تطرأ على مخيلتها، أو ترغب فيها، عند نقطة البداية.
إلا أن التساؤل هنا: هل يعتبر التدخل السري فكرة جيدة؟ يرى بعض المحللين أنه نادراً ما ينجح، وينبغي العمل على تجنبه قدر الإمكان، لكن من المحتمل أن يكون هذا طرحاً خاطئاً. في الحقيقة عادة ما تلجأ الدول إلى العمل السري عندما تخفق الخيارات الأخرى، أو تعتبر غير مرغوب فيها. وعليه، فإن احتمالية النجاح تبدو منخفضة منذ الوهلة الأولى. ورغم هذا، جنت الولايات المتحدة بالفعل، بعض الأحيان، مكاسب استراتيجية كبيرة من وراء تدخلها.
على سبيل المثال، لعب الدعم السري للسياسيين الديمقراطيين في إيطاليا نهاية أربعينيات القرن الماضي دوراً متواضعاً، لكنه ربما يكون مهماً في تعزيز موقف البلاد في مواجهة تحديات شيوعية داخل صناديق الاقتراع. ومقابل تكلفة استئجار بعض الغوغاء، مهدت واشنطن الطريق أمام إسقاط رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق عام 1953، لتضمن بذلك ميزة استراتيجية بمنطقة الخليج العربي استمرت 25 عاماً. كما عاونت
سي.آي.إيه، المؤسسة العسكرية الإندونيسية في تعزيز قبضتها على السلطة بعد الإطاحة بسوكارنو المعادي للولايات المتحدة على نحو متزايد عام 1965، مما مكن واشنطن من تجنب إمكانية تحول الدول الأهم في جنوب شرق آسيا إلى دولة معادية لها.
وخلال السبعينيات، عندما اجتاحت زلازل آيديولوجية دول العالم الثالث، وكانت الولايات المتحدة تعاني من تداعيات ما بعد حرب فيتنام، كان للعمليات السرية أهمية محورية في المضي على المسار الصحيح.
وأخيراً، خلال الثمانينات، اعتمدت إدارة ريغان على مجموعة واسعة من العمليات السرية لفرض ضغوط مكثفة على عملاء الاتحاد السوفياتي في أفغانستان ونيكاراغوا وأنغولا، وزيادة تكاليف الوجود العالمي أمام موسكو. ومن دون العمليات السرية، ربما لم تكن أميركا لتخرج منتصرة قط من الحرب الباردة.
بيد أنه للأسف الشديد تحمل بعض هذه الأمثلة جانباً مظلماً. مثلاً، من خلال تقديم العون للمؤسسة العسكرية الإندونيسية عام 1965، ورطت واشنطن نفسها في أعمال لعنف مروعة، أسفرت عن مقتل نصف مليون شخص. كما تكبدت ثمناً كبيراً لتآمرها ضد مصدق تمثل في صعود نظام معادي للولايات المتحدة داخل إيران عام 1979. وفي الوقت الذي دعمت الولايات المتحدة بعض الشخصيات الجديرة بالاحترام في مواجهة أنظمة شيوعية خلال الثمانينات، فإنها ساندت بعض الشخصيات البشعة كذلك. ومن خلال تسببها في زعزعة استقرار نظام ألليندي مطلع السبعينات، ساعدت الولايات المتحدة في إخماد جذوة حركة الديمقراطية التشيلية على مدار قرابة عقدين.
وبطبيعتها، يتعذر خلال العمليات السرية ممارسة الاختيار الحر للشركاء أو أساليبهم، الأمر الذي قد يخلق فوضى أخلاقية أمام قوة ديمقراطية عظمى. وبدافع من شعور بأن أي شيء سيكون أفضل عن الشيوعية الصاعدة، احتضنت أميركا أنظمة استبدادية، وبذلت جهوداً لقتل زعماء أجانب مثل باتريس لومومبا في الكونغو أو فيدل كاسترو في كوبا ـ وكان هذا أمراً بشعاً. وعندما يحدث ذلك، تتحول العمليات السرية إلى سبب لتأجيج كراهية الولايات المتحدة عبر دول العالم الثالث، وليس حلاً لها.
ونظراً لأن العمليات السرية تنطوي بطبيعتها على مخاطر مرتفعة، فإنها قد تخفق على نحو مروع. الملاحظ أن الولايات المتحدة كان لها يد في خلق بعض المشكلات التي واجهتها داخل إندونيسيا في الخمسينات من خلال محاولة والإخفاق في تأجيج حركة انفصالية ضد حكومة سوكارنو. كما أن ورطة «خليج الخنازير» عام 1961 دفعت كاسترو لتنفيذ عمليات هجوم سرية من جانبه ترمي لإسقاط حلفاء واشنطن في أميركا اللاتينية. كما دفعت العمليات السرية الأميركية نيكيتا خوروشوف إلى نشر صواريخ نووية في كوبا، ما أدَّى إلى اشعال الأزمة الأشد خطورة خلال الحرب الباردة.
الواقع أن أحد الجوانب المأساوية للتنافس الجيوسياسي أنه غالباً ما يطرح خيارات غير جذابة أمام القوى الكبرى. وأحياناً يكون البديل لنتيجة سيئة أخرى أسوأ، على الصعيدين الاستراتيجي والأخلاقي. ولذلك كثيراً ما لجأت واشنطن إلى التدخل من خلف الكواليس أثناء الحرب الباردة، وهذا هو السبب الذي قد يجعل مثل تلك العمليات مفيدة في المستقبل. إلا أن التاريخ يكشف لنا أن العمليات السرية ليست الدواء السحري لجميع التحديات الجيوسياسية التي يواجهها بلد ما، وإنما في بعض الأحيان قد يسفر عن مآسي.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»