علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

مشيخة الأزهر وفترة قلقة

ما بين وفاة شيخ الأزهر، مصطفى المراغي، في الثاني والعشرين من شهر أغسطس (آب) سنة 1945، واستيلاء تنظيم «الضباط الأحرار» على السلطة، وهي السنوات التي ادعى أحمد عدنان أنها البداية لـ«تدجين الإسلام الرسمي واستخدامه»، عاشت مشيخة الأزهر فترة قلقة. فلقد عُيِّن في هذا المنصب أربعة شيوخ، أحدهم عُيِّن مرتين فيه، وهو الشيخ عبد المجيد سليم الذي حين قام تنظيم «الضباط الأحرار» بالاستيلاء على السلطة كان هو شيخ الأزهر.
هذه الفترة القلقة في مشيخته استمرت إلى 7 يناير (كانون الثاني) سنة 1954، وذلك حين عُيِّن الشيخ الدكتور عبد الرحمن تاج في هذا التاريخ شيخاً للأزهر. أي أنها استمرت إلى ما بعد قلب أولئك الضباط نظام الحكم الملكي، سنة ونصفاً وخمسة عشر يوماً.
يتحدث حلمي النمنم عن هذه الفترة القلقة في مشيخة الأزهر، في كتابه «الأزهر: الشيخ والمشيخة»، فيقول: «حين توفي الشيخ المراغي في أغسطس 1945، ظهرت أزمة جديدة حول اختيار شيخ جديد للأزهر. لم تكن هي الأزمة التقليدية بين القصر والوفد؛ لكنها هذه المرة داخل القصر. فقد رشح الديوان الملكي الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية ليكون شيخاً للأزهر. وكان الاختيار مناسباً تماماً، فالرجل عُرف عنه العلم والورع والتقوى. وهو عضو هيئة كبار العلماء، ومن رجال الأزهر المعدودين. وفوق ذلك، فإن ولاءه للعرش مؤكد وثابت. فقد عمل في القصر من قبل؛ حيث كان إماماً للملك فؤاد... ولما عرض الديوان هذا الترشيح على الملك فاروق كانت المفاجأة لوكيل الديوان الملكي حسن يوسف، أن الملك فاروق رفض اسم الشيخ عبد المجيد سليم، وأصدر أمراً بتعيين وزير الأوقاف الشيخ مصطفى عبد الرازق. لم يكن هناك أي غبار على اسم الشيخ مصطفى عبد الرازق. هو من علماء الأزهر... وهو أيضاً من المنتمين إلى حزب (الأحرار الدستوريين)، حليف الملك آنذاك ومعظم الوقت... وكانت هناك مشكلات قانونية في تعيين الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخاً للأزهر. كان القانون ينص على أن يكون شيخ الأزهر عضواً بهيئة كبار العلماء، ولم يكن الشيخ مصطفى عضواً فيها. وكان القانون يشترط – أيضاً – أن يكون الشيخ قد أمضى عشر سنوات – على الأقل - في التدريس بالأزهر، ولم يكن مصطفى عبد الرازق مدرساً بالأزهر أي يوم. وتم العمل على تنفيذ رغبة الملك فاروق، فتقدمت حكومة النقراشي بطلب تعديل شروط تعيين شيخ الأزهر، بإلغاء شرط عضوية هيئة كبار العلماء، وأن تعدل المادة الخاصة بالتدريس في الأزهر، ليكون التدريس في الأزهر، أو جامعة فؤاد، أو جامعة فاروق، ولمدة خمس سنوات بدلاً من عشر. وحاولت المعارضة الوفدية أن تتصدى لذلك المشروع؛ لكن تم إقراره في مجلس النواب يوم 11 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1945، وبعدها بنحو أسبوعين أقر مجلس الشيوخ التعديل. وفي 16 فبراير (شباط) من عام 1946، صدر الأمر الملكي بتعيين الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخاً للأزهر، بعد 6 أشهر تقريباً من وفاة الشيخ المراغي. المعارضة الحقيقة لتعيين شيخ الأزهر كانت من هيئة كبار العلماء، فقد احتج الشيخ عبد المجيد سليم على التعديل في القانون والذي يحرمه من حقه. وحاول الديوان الملكي إقناعه بأن معارضته لن تجدي؛ لأن الأمر الملكي لا رجعة عنه. أما الشيخ مأمون الشناوي، وكيل الأزهر، فقد تقدم باستقالته من منصبه احتجاجاً على تخطيه من قبل الملك والديوان الملكي».
هذه هي المشكلة الأولى في تلك الفترة القلقة. وفي أثناء تولي الشيخ الدكتور مصطفى عبد الرازق لهذا المنصب، عانى كثيراً من تحزب أعضاء هيئة كبار علماء الأزهر، وعدد من علماء الأزهر ضده. وعدد من الذين كتبوا عنه تعرضوا لمعاناته هذه.
ومن هؤلاء صاحب الحديث عن الفترة القلقة في مشيخة الأزهر.
يقول حلمي النمنم: «استمر الشيخ في موقعه لمدة عام فقط، فقد توفي في 16 فبراير 1947، وقد عانى كثيراً من الفشل داخل الأزهر. وشكا كثيراً مما يتعرض له، وأعلن أنه ندم على قبول ذلك المنصب. وظلت مشيخة الأزهر شاغرة لمدة 11 شهراً وأربعة أيام؛ حيث صدر الأمر المكي باختيار الشيخ مأمون الشناوي شيخاً للأزهر، يوم 20 يناير (في مصدر آخر 18 يناير) 1948، ولم يعمر طويلاً في موقعه؛ حيث وافته المنية في سبتمبر (أيلول) 1950. وبعد شهر صدر الأمر الملكي بتعيين الشيخ عبد المجيد سليم؛ لكنه سوف يستقيل منه بعد أقل من عام».
المعروف أن سبب إقالته أو إلزامه بالاستقالة، هو قوله في حديث صحافي مع مجلة «آخر ساعة»: «تقتير هنا وإسراف هناك»، والذي جُعل عنواناً للحديث الصحافي. ففهم الملك فاروق - والذي كان حين نشر الحديث يصطاف في أوروبا - أنه يعرِّض به.
لصاحب الحديث (النمنم) وجهة نظر مخالفة لما هو معروف عن هذه الواقعة الشهيرة؛ لكنها مقنعة جداً. مفادها أن شيخ الأزهر، عبد المجيد سليم، في قوله السالف كان يقصد الحكومة لا الملك فاروق؛ لكن الملك فاروق فهم – خطأ – أنه هو المقصود. وقد أدرك بعد حين هذه الحقيقة. وهذا هو الذي جعل الشيخ عبد المجيد سليم يعود مرة ثانية لمشيخة الأزهر، بعد أن مكث في هذا المنصب بعده الشيخ إبراهيم حمروش أشهراً قليلة، بدأت في 4 سبتمبر 1951 وانتهت في 9 فبراير 1952. يقول صاحب الحديث عن هذا الشيخ: «كما جاء ذهب. أقيل من منصبه بالطريقة نفسها، أي طُلب إليه التقدم باستقالته ففعل. وفي اليوم التالي استصدر علي ماهر رئيس الوزراء أمراً ملكياً بتعيين الشيخ عبد المجيد سليم شيخاً للأزهر مرة ثانية».
استقال شيخ الأزهر، عبد المجيد سليم، بعد مضي أقل من شهرين على قيام حركة «الضباط الأحرار». وذكر صاحب الحديث أسباباً عدة محتملة لاستقالته، ولم يرجح سبباً منها أنه كان السبب الأساسي. ولم يحسم هل هو الذي استقال، أم أنه طُلب منه أن يستقيل؟
عيَّن مجلس قيادة الثورة في عهد محمد نجيب بعده، الشيخ محمد الخضر حسين شيخاً للأزهر. وبعد سنة وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً، قدم استقالته إلى محمد نجيب.
يرد النمنم في حديثه عن هذا الشيخ التونسي ذي الأصل الجزائري، على الذين قالوا إن اختياره تعبير عن توجههم القومي العروبي، بأنه في تلك الفترة لم يكن الوجه التحرري العروبي لـ«الضباط الأحرار» قد ظهر بعد.
ويفسر لماذا ذهب إلى بيته ثلاثة من الوزراء لإبلاغه باختيار مجلس الوزراء له شيخاً للأزهر، والذي قيل إنهم ذهبوا لإقناعه والإلحاح عليه لقبول هذا المنصب، استناداً إلى ما قاله عن هذه الواقعة فتحي رضوان، الذي كان أحد هؤلاء الوزراء الثلاثة.
يقول فتحي رضوان: «ففي اجتماع مجلس الوزراء، وكان يرأسه محمد نجيب، اقترح أحدهم اسم الشيخ محمد الخضر حسين شيخاً للأزهر. والرجل عالم جليل؛ ولكن ظهرت مشكلة خلال الاجتماع، وهي أن الرجل كان قد أصيب بشلل، وتظهره الصور الفوتوغرافية كهلاً وغير قادر على الحركة. ولذا تم الاتفاق على أن يذهب إليه في البيت ثلاثة من الوزراء ليتأكدوا مما إذا كان قادراً من الناحية الصحية على أن يمارس مهام العمل أم لا. فإن كان مريضاً اعتُبرت زيارة للاطمئنان، وإن كان صحيحاً ومعافى كلَّفوه بالمهمة؛ لكن تعليقات الصحف على هذه الزيارة هي التي خلقت الأساطير حولها».
شكك النمنم في حديثه عن هذا الشيخ في أن سبب استقالته هو اعتراضه على دمج القضاء الشرعي في القضاء الأهلي، وحاول تفنيد هذا التسبيب.
ثمة رواية تقول بسبب مختلف عن جميع الأسباب المتداولة التي تفسر بها استقالته، لم يقف عليها صاحب الحديث. هذا السبب المختلف يفسر بنزعة إقليمية مصرية! صاحب هذه الرواية فقيه من العراق، وذو توجه إخواني. درس في الأزهر ثانوية وكلية ودراسات عليا. هو طه جابر العلواني. وقال بها في مقال رثى فيه الشيخ محمد الغزالي في مجلة «إسلامية المعرفة» في أبريل (نيسان) عام 1996، يقول: «كانت الأزمة بين نظام الرئيس عبد الناصر وجماعة (الإخوان) في أوجها آنذاك، والصحافة مستغرقة في أخبار الجماعة ورجالها وتصريحاتهم واختلاف الأقوال فيهم، كما كانت الأصوات في كليات الأزهر تتعالى لتمصير الأزهر، وإقالة آخر شيخ من خارج مصر من المشيخة، وهو الشيخ محمد الخضر حسين التونسي (رحمه الله تعالى) الذي خرجت مظاهرة يقودها بعض المحسوبين على النظام تهتف بوجوب تخليه عن مشيخة الأزهر؛ لأنه – حسب ادعائهم – لا يمكن لغريب أن يحس بمشاعر المصريين، أو أن يعرف احتياجاتهم. ولا زلت أذكر شكل الشيخ الخضر وهو واقف على باب مشيخة الأزهر الحالية، ليعلن – ودموعه تغالبه – استقالته، وأنه لم يكن يتوقع من أبناء الأزهر أن يلجأوا إلى مثل هذه الأساليب، أو تبلغ الجرأة بهم على شيوخهم هذى المدى، مؤكداً أنه لا يعرف التفرقة بين أبناء الأزهر والمنتمين له، وأن الجميع بالنسبة له أبناؤه وأحباؤه وإخوانه، ثم انسحب إلى الداخل ليجمع أوراقه ويغادر مبنى المشيخة للمرة الأخيرة. ولعل ذلك كان الخط الفاصل بين انتماء الأزهر الإسلامي العالمي وانتمائه الإقليمي».
هذه الواقعة التي شهدها، أقدِّر أنه شهدها وهو في السنة الأولى بكلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، وقد أشار إلى هذه الواقعة عبد الحكيم حمادة، في رسالة وجهها إلى علي الرضا الحسيني، مؤرخة بتاريخ هجري هو 18/8/1397. (راجع مقال الدكتور غريب جمعة: الإمام محمد الخضر حسين التونسي الذي رفعه علمه وخلقه وجهاده إلى مشيخة الأزهر، المنشور في جريدة «أخبار الخليج» البحرينية).
المظاهرة في رواية العلواني كان وراءها النظام، ورُفع فيها شعار إقليمي مصري. والمظاهرة في رواية حمادة كان وراءها النظام أيضاً؛ لكنها قامت بحجة معيشية، وأهمل الإشارة إلى رفع هتاف إقليمي فيها.
أنا لا أعرف شيئاً عن صاحب الرسالة الذي عرَّف نفسه بأنه من علماء الأزهر برابطة العالم الإسلامي؛ لكن من الواضح أنه من الغارقين في ترهات «الإخوان المسلمين»، إذ ادعى أن الحكومة المصرية بعد استقالة الخضر حسين تمكنت من تنفيذ قانون تطوير الأزهر للقضاء عليه!
ولأنه كذلك، فلن أقف عند روايته، وسألتفت إلى رواية رجل رصين مثل العلواني، لكشف عيبها وبيان ثغرة واسعة في تعجب الخضر حسين من اجتراء أبناء الأزهر على شيوخهم. وللحديث بقية.