حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

الحرب العالمية الباردة الثانية!

هناك مثل فرنسي مشهور يقول: «لا تأتي اثنتان إلا ولا بد من الثالثة». تذكرت هذه المقولة وأنا أتابع التصعيد السياسي الحاد فيما يتعلق بالاتهامات المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين. فالعالم اليوم لديه أزمة صحية كارثية متمثلة في جائحة «كوفيد- 19»، وانتشارها المدمر، ولديه أيضاً كارثة اقتصادية جراء هذه الأزمة، وتدهور الأسواق التجارية والمالية، وهبوط أسعار النفط. والآن يأتي توتر استثنائي بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم، ويصعب التفكير أو مجرد التخيل فيما يمكن أن يكون الأثر المتوقع على الاقتصاد الدولي.
إنها مسامير جديدة في نعش النظام العالمي القديم. ولكن إذا ما تمعنَّا في التحليل الأعمق للمسألة، فسيكون السبب في هذا التوتر هو صدام القيم والمبادئ. وهو حادث اصطدام لقطارين سريعين يشاهده العالم يحدث بالسرعة البطيئة.
لسنوات طويلة كانت الصين محكومة من حزب شيوعي مركزي قمعي للحقوق والحريات يرتدي «البدلة الرأسمالية» حول العالم، ويقنع المجتمع الدولي عموماً، والغرب تحديداً، بأنه «جزء من النادي الخاص». كل ذلك كان جزءاً من برنامج دقيق بدأه هنري كيسنجر مع دينغ زياو بينغ، المسؤول التنفيذي الكبير في القيادة الصينية في الأيام الأخيرة لحكم الزعيم الصيني ماو تسي تونغ. وانطلق الانفتاح الأميركي على الصين لترويج سلعها التجارية في سوق المليار مستهلك، وإخراجها من خلف جدران الشيوعية. وروَّج الغرب للرأسمالية الصينية الجديدة، واحتفوا بها بشكل واضح، كما سمت الظاهرة الخبيرة الاقتصادية لوريتا نابوليوني في كتابها المهم «اقتصاديات ماو»، وأيضاً برع المؤلف أوديد شينكار في وصف المرحلة، من خلال كتابه المؤثر الذي اختار له عنواناً مدهشاً هو «القرن الصيني» في إشارة مستقبلية واضحة.
لقد قدمت الصين (الشيوعية) نموذجاً صادماً للأعمال لا يقبله رموز الفكر الشيوعي من أمثال كارل ماركس، ولكن الصين الرأسمالية استمرت على نهجها المانع للحريات، وزادت وتيرة الاحتكاكات والتصادم القيمي، وخاض البلدان صولات وجولات من الخلافات والاتهامات والعقوبات والاتفاقيات، وصولاً لما هو عليه الحال اليوم. يحب المحللون وصف الوضع بين البلدين بالحرب الباردة، ولكنها حرب دافئة في الواقع، فاليوم أميركا تتهم الصين بصريح العبارة بأنها السبب الرئيسي في تفشي الجائحة، وتهدد بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، ومعاقبتها بأقصى العقوبات الاقتصادية الممكنة. وهذا سيكون سبباً مباشراً في مزيد من الآثار السلبية على الاقتصاد الدولي. اقتصادياً الصين وأميركا أشبه بتوأم سيامي مرتبطين في الرأس، والانفصال قد يدمر الآخر اقتصادياً، وإن كانت القوة الأميركية ترجح كفتها بشكل أساسي. اليوم العالم بحاجة ماسة لفرصة حقيقية لالتقاط الأنفاس بعد أزمة تلو الأخرى، ولن يكون بإمكانه مواجهة تحدٍّ مهول بحجم حرب ساخنة بين أميركا والصين.
بعيداً عن تنجيم ميشال حايك أو ليلى عبد اللطيف، ومع بالغ الاحترام والتقدير لتوقعات الدكتور طلال أبو غزالة عن حرب «وشيكة» بين البلدين، فالمطلوب أن تطغى لغة العقل والحكمة. طبول الحرب ستعلو لدى أنصار الحزب الجمهوري في سنة انتخابية حاسمة للرئيس الجمهوري دونالد ترمب، وهو يرى كل ما حققه من إنجاز اقتصادي يتهاوى أمامه بسبب الفيروس، والصين ترفض قبول التهم المتزايدة ضدها التي تحمِّلها المسؤولية الرئيسية عن انتشاره. كل ذلك يكوِّن معالم «العاصفة المثالية» للحرب.
العالم بحاجة ماسة للعمل الجماعي المشترك بين القوى الكبرى والمؤثرة في هذا الوقت بالذات، وأكثر من أي وقت مضى؛ لأنه سيجبر كل الدول حول العالم على اختيار إحدى الدولتين للوقوف في صفها، والعالم منهك وضعيف وغير قادر على تحمل حدة الانقسام القطبي.
إنها الحرب العالمية الباردة الثانية (بعد الأولى التي كانت بين الغرب والاتحاد السوفياتي من قبل انهياره) وسخونتها تزداد، ومن الواضح أن سنة 2020 لا يزال في جعبتها مزيد من الصدمات والإثارة!