لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

أي نموذج تنموي جديد في المغرب بعد الوباء؟

يكاد يُجمع الكل في المغرب على أن النموذج التنموي المُعتمَد لحد الآن بلغ مداه. وهو شيء نبَه له الملك محمد السادس منذ حوالي سنة، وعين لجنة قبل حوالي خمسة أشهر لإعادة التفكير وصياغة تصور جديد يعتمد على مقاربات جديدة للتنمية في المغرب. ما يُعاب على النموذج الحالي هو أنه رغم الإنجازات العديدة التي حققها على مستويات عدة، سياسية واقتصادية واجتماعية، فإنه لم يتمكن من القضاء على الفقر نهائياً، ولم يرفع من قدرات الطبقة الوسطى، ولم يُنهِ معضلة بطالة الشباب، ولم يؤهل العنصر البشري ليكون في قلب التنمية، ولم يحقق العدالة الاجتماعية والمجالية المنشودة، ولم يُمَكِنْ المغرب من ولوج اقتصاد المعرفة من بابه الواسع، ولم يجعله في مصاف الدول الصاعدة كما كان مُنتَظَراً.
في كتابي «جدلية السياسي والتنموي: نحو عقد اجتماعي جديد» (منشورات ملتقى الطرق، 2019) تطرقت بشكل مُفَصَل للإنجازات، وهي كثيرة، وكذا للعراقيل والتحديات. ربما كان أكبر تحَدٍ واجهه المغرب خلال العقدين الأخيرين هو عدم القدرة على تحقيق نسبة نمو تقارب الستة في المائة رغم المجهود الاستثماري العمومي والذي يناهز عشرين مليار دولار في السنة، ورغم تدفق الاستثمارات الأجنبية والتي تبلغ حوالي ثلاثة مليارات دولار سنويا، ورغم الاستثمار الداخلي الخاص والذي قد يصل إلى حوالي 10 مليارات دولار (حسب تقديرات بعض الاقتصاديين).
اعتماد نموذج ليبرالي يقتضي مقاربة «التقطير من فوق»، أي تسهيلات ضريبية لأصحاب الرأسمال تعود عليهم بالنفع وتشجعهم على الاستثمار وخلق الثروة والشغل مما سيعود بالنفع كذلك على الطبقات السفلى، لم يعد اختياراً صالحاً.
من جهة أخرى، إعادة توزيع الثروة عبر سياسة جبائية عادلة لم تكن أولوية في ظل سيطرة نظرة «التقطير من فوق». بالعكس، ما حصل هو خفض متدرج للضرائب على أصحاب الثروات أملاً في خلق محيط أحسن لتشجيع الاستثمار. أضف إلى هذا أن الاختيارات الاستراتيجية الكبرى والمتمثلة في الاعتماد على الشركاء الأوروبيين كان صائباً، ولكنه بقي غير متكافئ ولم يكن بقصد دعم الصناعة الوطنية وبروز طبقة وسطى وحركية استهلاك وطني؛ بالعكس، ما حصل هو تواري المغرب لدور مُكَمِل ومنطقة خلفية لأوروبا لإعادة التوطين والاستهلاك والتزويد بالمواد الأولية والفلاحية وقِبْلة للاستثمار المربح والاكتفاء بالقيام بأدوار ثانوية على مستوى التصنيع والتكنولوجيا والمعاملات المالية.
من جهة أخرى، لم يكن الاعتماد على الرأسمال القار وحده عبر تشجيع الاستثمار مفيداً للنمو بشكل كبير. التقرير المفصل الذي وضعه البنك الدولي قبل سنتين والذي عنونه «المغرب في أفق 2040 - الاستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي» (2018) قال بأن الاعتماد على الرأسمال القار وحده غير كافٍ لتحقيق نمو سنوي مرتفع. على المغرب أن يستثمر 50 في المائة من ناتجه الداخلي الخام إن هو أراد أن يحقق نسبة نمو تناهز 6 في المائة، وهذا غير ممكن، لأن نسبة التوفير لا تتعدى 30 في المائة وأي محاولة لتعبئة العشرين في المائة الباقية عن طريق الاقتراض ستكون لها عواقب وخيمة على ميزان الأداءات.
وجهة نظري هي أنَّ الرفع من نسبة التوفير غير متاحة في الوقت الحالي، رغم فتح باب التمويلات البديلة والبنوك التشاركية، وذلك لأنَّ السياسة الجبائية متذبذبة، ولأنَّ تطور القدرة الشرائية للطبقة الوسطى لم تكن موازية لا لنسبة التضخم ولا لتطور طلباتها على السكن والتطبيب والسيارة والجامعة والسفر.
لتحقيق نمو أكثر، يقترح البنك الدولي دعم توسيع سوق الشغل لينتقل من 46 في المائة إلى 56 في المائة عبر الاستثمار في الرفع من قدرات النساء (التي لا تتعدى نسبة مساهمتهن في سوق الشغل 23 في المائة) وعبر خلق ليونة أكثر في مسلسل التشغيل. وهذا يقتضي، في نظري، دعم التقاول والتقاول الاجتماعي والدورات التدريبية المؤدى عنها من طرف المشغلين، والشغل المؤقت، والشغل عن بعد، والمستخدمين الذاتيين ودعم المقاولين الذاتيين والمقاولات الصغرى والاستثمار في القطاعات المشغلة مثل الخدمات والتجارة والسياحة والتكنولوجيا والصناعة الثقافية والفنية وغيرها. وتوسيع سوق الشغل من شأنه أن يعطي المغرب إمكانية تحقيق نقطة إضافية على مستوى مؤشر النمو.
ويقترح البنك الدولي كذلك الاستثمار في الرأسمال اللامادي، أي المؤسسات والرأسمال الاجتماعي والمعرفي. الرأسمال اللامادي يعني أولاً، الاستثمار في دعم المؤسسات لتحقيق العدالة والشفافية في الولوج للمعلومة والرأسمال والعقار؛ وثانيا، دعم الرأسمال الاجتماعي المتمثل في العمل التطوعي والجمعوي والحقوقي وتأهيل العنصر البشري خصوصا المرأة والشباب لينخرطوا أكثر في الدورة الاقتصادية؛ ثالثاً، الاستثمار في اقتصاد المعرفة وبناء الجامعات ومراكز البحث وتأهيل المجتمع عبر المدرسة والجامعة ليبتكر ويخلق ويصنع ويجد الحلول (تماماً كما يقع حالياً في زمن كورونا). هذا الاستثمار من شأنه أن يعطي الاقتصاد الوطني نقطة إضافية على الأقل على مستوى النمو الاقتصادي.
أظن أن نقطتين إضافيتين أخريين يمكن الحصول عليهما، أولاً من اعتماد لا مركزية ناجعة وفعالة تستثمر بشكل ذكي في دعم إمكانيات الجهات (المناطق) والدفع بها لتلعب دور أقطاب اقتصادية جهوية لها خصوصياتها ونقط قوتها ودورها على المستوى المحلي والوطني. وثانياً، التخفيف من الكلفة البيئية، والمُقَدَرة حاليا بـ3.7 في المائة، عبر الاستثمار في الاقتصاد الأخضر والطاقات المتجددة. وثالثاً، تجديد منظومة الحكامة لتحديد الأدوار والمسؤوليات والوسائل بشكل واضح، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى نجاعة أكبر في تدبير الموارد. ورابعاً، إعادة توزيع عادلة للثروة تعطي للطبقات المتوسطة والسفلى القدرات والإمكانيات للاستهلاك والمساهمة بشكل أكبر في الدورة الاقتصادية.
ماذا تغير مع جائحة كورونا؟ أولاً، يجب استغلال فرصة التعبئة ورجوع روح التضامن وارتفاع منسوب الثقة من أجل الإسراع بوضع تصور جديد وتنفيذه. ثانياً، أي نموذج اقتصادي جديد لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار مستجدين اثنين لا محيد عنهما بالنسبة للمغرب ولكثير من الدول: الأمن الصحي والأمن الغذائي. ثالثاً، ضرورة تطوير قاعدة تكنولوجية وبنية تحتية متطورة لصناعة وطنية معتمدة على مزايا الثورة الصناعية الرابعة والرقمنة. تجربة كورونا أظهرت الإمكانيات المهمة التي يتوفر عليها المغرب في هذا الإطار. رابعاً، العمل مع الشركاء الأوروبيين على لعب دور متطور على مستوى سلاسل التزود.
في زمن كورونا، أدركت أوروبا خطر اعتمادها على سلاسل الإنتاج الصينية وكلفة البعد الجغرافي. يمكن للمغرب لعب دور مزود لِقِطَعِ الغيار دون كلفة سياسية ودون كلفة شحن عبر آلاف الكيلومترات.
أخيراً، العمل على استثمار الثقافة التضامنية التي أبان عنها المغاربة، لوضع نموذج اقتصادي جديد مبني على التضامن والإنتاج المحلي والمنصات التجارية والرقمية المحلية، وعلى فلاحة مستديمة وخضراء، وعلى تثمين الموروث الثقافي المحلي، وعلى تدبير عقلاني ومتجدد للموارد، وبالتالي لا يجب تفويت هذه الفرصة لخلق المجتمعات المتضامنة والمستديمة والعادلة المنشودة.