جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ما بين سطور الوباء

أزمنة الكوارث الطبيعية وتفشي الأوبئة تعدّ بيئةً نموذجيةً لظهور وسريان الإشاعة وانتشارها، ومناخاً ملائماً للتضليل الإعلامي، وكذلك لتمدد الخرافة في العقول، وربما أيضاً تتاح الفرص لظهور مدعي النبوة. ذلك أن استحواذ الخوف على الناس من الإصابة بالفيروس واحتمال الموت يسبب الارتباك لحيواتهم، وتصير غريزة حبّ البقاء البوصلة الوحيدة التي تقود نحو طريق النجاة بالنفس والهروب من ملاحقة شبح الموت. ومن المرجح أن البعض يسعى إلى تسييس تلك الأزمات، خاصة من قبل مجموعات وتنظيمات سياسية هامشية، تدور أغلبها في مدار التطرف، بهدف استغلالها لأهدافها الخاصة. الأمر أيضاً يطال عصابات الجريمة المنظمة.
ذكّرني بذلك الأعمال الخيرية الفجائية التي يقدمها، خلال أزمة الحجْر الصحي من الفيروس الوبائي، أفراد عصابات المافيا الإيطالية لسكان الأحياء الفقيرة في كثير من المدن، وخاصة في الجنوب الإيطالي. التقارير الإعلامية تتحدث عن تحول أفراد تلك العصابات، فجأة، إلى ملائكة رحمة تطوعوا لإنقاذ أناس محتاجين من خطر الجوع والعوز، وتقديم الحماية لهم من الوباء!!
ونظراً لانشغال الحكومة الإيطالية بالتصدي للوباء ومحاولة تفادي ضرباته القاتلة، وجد المافيوزيون الأرض ممهدة أمامهم للتحرك ولضرب عدة عصافير بحجر واحد؛ أولها تجنيد شباب جدد وضمهم إلى صفوف الكوادر القديمة، وثانياً الاستحواذ على كثير من المحال التجارية والشركات الصغيرة المفلسة بأثمان زهيدة لاستثمارها تجارياً مستقبلاً وخاصة في غسل الأموال، وثالثاً توسيع مساحة البيئة الحاضنة، وتمديد حدودها لتمكنهم من التحرك والعمل بأمان وحرية. واستغلوا غياب الدولة في تلك الأحياء، وانتشروا فيها علناً، بسيارات محملة بالأغذية والأدوية لتوزيعها على أناس محتاجين، غير مرئيين للحكومة، لأنهم غير مسجلين ضمن قوائم دافعي الضرائب، لاعتمادهم في كسب أرزاقهم على العمل في نشاطات السوق السوداء؛ حيث التعامل نقداً، وبشكل يومي. لكن العصابات الإجرامية تعرف أولئك الناس، وكيفية الوصول إليهم من دون عناء.
النشاط الخيري المافيوزي الفجائي استرعى اهتمام وسائل الإعلام الإيطالية، وكذلك كثير من رجال القانون ممن سبق لهم العمل في مكافحة الجريمة المنظمة، وسارعوا إلى إطلاق صافرات الإنذار لتحذير الحكومة وأجهزتها الأمنية من مغبة التهاون في عدم التصدي لعصابات المافيا وخاصة في مدينة باليرمو عاصمة صقلية، بالعمل على استعادة حضورها في تلك الأحياء، والمساهمة بتقديم العون والمساعدة للمحتاجين، الذين حرمهم الحجْر القسري من مداخيلهم.
في البرازيل، ونتيجة لغياب الدولة ممثلاً في أجهزتها الصحية والأمنية، تحول رجال العصابات إلى حراس للأمن، وحماة للمواطنين من انتشار الوباء الفيروسي، في الأحياء الفقيرة المكتظة سكانياً، في مدينتي ريو دي جانيرو وسان باولو. وانتشر أفراد العصابات في تلك الأحياء لحظر خروج المواطنين إلى الشوارع، وكذلك لتقديم المساعدات الغذائية والطبية للمحتاجين منهم.
البرازيل تمر بوعكة سياسية غير عادية، بسبب إصرار الرئيس البرازيلي بولسورانو على رفض فرض حجْر صحي منعاً لإصابة البلاد بشلل اقتصادي. لكن موقفه قوبل بمعارضة من وزير الصحة، مدعوماً بكثير من حكام الأقاليم، فما كان منه إلا عزل الوزير واستبدال آخر به، والتنديد بحكام الأقاليم على فرضهم الحجْر الصحي.
كيتي واتسون مراسلة هيئة الإذاعة البريطانية في أميركا الجنوبية قالت في تعليق نشرته الهيئة على موقعها الإلكتروني: «طرد وزير صحة، في منتصف أزمة وبائية، خاصة في بلد يحذر المختصون الطبيون من مغبة انهيار نظامه الصحي، ليس بأفضل الأوقات للرئيس بولسورانو».
تفشي وباء فيروس «كورونا»، وفقاً لتقارير إعلامية بريطانية، جاء بمثابة هدية غير متوقعة للتنظيمات اليمينية المتطرفة في بريطانيا وأوروبا وأميركا التي استغلت، هي الأخرى، الفرص المتاحة للمسارعة بالوجود في الأحياء الفقيرة في مختلف المدن، لتقديم المساعدات والغذاء للأسر الفقيرة، ولتمرير بضاعتها المسمومة في نشر الشائعات، وتوزيع المناشير والنشرات المليئة بآخر ما وصلت إليه تلك التنظيمات في التضليل الإعلامي وتزوير الحقائق، بغرض كسب مزيد من الأنصار، وذلك استناداً إلى تقرير صدر مؤخراً، عن مؤسسة بريطانية تدعى Zink Network متخصصة في رصد التضليل الإعلامي والدعاية (البروباغندا).
التقرير أوضح أن هدف هذه المجموعات هو السعي إلى استغلال الارتباك الذي أحدثه تفشي فيروس «كورونا» بغرض تأسيس كيان سياسي فاشي النزعة في بريطانيا، مستخدمين تكتيكات معقدة في أنشطة يصعب رصدها للجوء الكوادر إلى استخدام الترميز الإلكتروني في اتصالاتهم لتبادل المعلومات. الرسائل التي تحملها المناشير، الصادرة عن تلك المجموعات، تحرص على تأكيد الصلة بين وجود المهاجرين وانتشار الفيروس. وتجادل بأن الدول التي تحكمها أنظمة سياسية غير ديمقراطية تفوقت في أدائها في التعامل مع الفيروس، والحدّ من انتشاره، على نظيراتها من الدول الديمقراطية. وتربط مباشرة بين انتشار الفيروس والهجرة غير الشرعية. ومؤكدة أن الدول الحريصة على ضبط منافذها الحدودية أفضل استعداداً وإعداداً في التعامل مع تفشي الوباء. وتتنبأ بأن الدول الليبرالية الحديثة على وشك الانهيار، ومن الممكن التسريع بانهيارها من خلال عمل مسلح أو أزمة كبيرة. كما كشف التقرير أن تلك المجموعات وراء نشر تقرير طبي غير حقيقي حول إصابة مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن بفيروس «كورونا».