د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

استثمارات ما بعد «كورونا»

بعد تجاوز عديد من الدول مرحلة الذروة بإصابات فيروس كورونا، بما في ذلك دول أوروبا بمجملها، وإعلان بعض الدول إعادة النشاط الاقتصادي، ولو بشكل جزئي. بدأ التفكير في استثمار التغييرات الممكنة بعد «كورونا»، وبعض هذه التغييرات جلي مثل التغير في منهجيات وتشريعات البحث العلمي في كثير من الدول، وما يصاحبها من تغيير في الاستثمارات، ومثل سياسات الاكتفاء الذاتي في الكثير من الصناعات والقطاعات الاستراتيجية كالأغذية والأدوية والمستلزمات الأساسية، وما يصاحبها من أنشطة اقتصادية. كذلك سيشمل الكثير من القطاعات التي لم تخف أهميتها قبل الأزمة، ولكن التغييرات التي قد تطرأ عليها قد تكون جذرية، مثل القطاعات اللوجستية والمالية والأجهزة الطبية الوقائية والتجارة الإلكترونية وقطاع التجزئة. وأهمية معرفة هذه القطاعات تكمن في التوجه الاستثماري المحتمل لها حال انتهاء الأزمة، وعدم ارتباط استمراريتها بالأزمة.
فالقطاع اللوجستي سوف يواجه الكثير من التحديات في مرحلة ما بعد «كورونا»، وأول هذه التحديات هو تعقيم البضائع الذي قد يستمر لفترة طويلة بعد «كورونا»، فلا وجود لتقنيات تجارية حالية بإمكانها تعقيم البضائع. وإن وجدت هذه التقنية، فيجب أن تعقم البضائع دون إفسادها، وفي ذلك تحدٍ كبير كون السلع المشحونة تختلف من الأغذية المعلبة إلى الورقيات التي قد تفسد من السوائل المستخدمة في التعقيم، وغيرها من البضائع. وهذا يعني أن صناعة جديدة سوف تظهر، صناعة لم تكن موجودة قبل «كورونا». أما على المستويات المحلية، فكل دول العالم الآن أدركت أهمية تنمية القطاع اللوجستي داخلها، وهو ما يعني أن الخدمات اللوجستية المحلية بكل الأطراف الداعمة لها سوف تشهد ثورة في الدول ذات البنية التحتية الضعيفة، يقابل هذه الثورة عدم يقين بمستقبل قطاع التجزئة لم يسبق له تاريخياً أن واجه شللاً، كما يواجه الآن. وحجم قطاع التجزئة يزيد على 25 ترليون دولار عالمياً، وهو قطاع مملوك من شركات كبرى قد لا تسمح أن تواجه موقفاً مشابهاً في المستقبل، ولذلك فمن المتوقع أن يشهد هذا القطاع تغيراً يمكنه من الحفاظ على مكانته. وبالتأكيد فإن التجارة الإلكترونية هي إحدى أكبر الرابحين في هذه الأزمة، ولعل أوضح مثال على ذلك ارتفاع أسهم شركة «أمازون»، بما يزيد على 30 في المائة.
أما بالنسبة للقطاع المالي، فإن لم يكن تفكير الحكومات جاداً في العملات الإلكترونية قبل «كورونا»، فقد يكون كذلك بعد هذه الأزمة، والملاحظ أن الكثير من الدول قللت من التعامل بالعملات الورقية، واستبدلتها بالتعاملات الإلكترونية والمدفوعات عن طريق البطاقات الائتمانية، وذلك لمنع انتشار الفيروس عن طريق تداول العملات النقدية. والعملات الإلكترونية - إن فعلا بالآلية المناسبة - ستكون أقل تكلفة على الحكومات من العملات المحسوسة. وفي الوقت الحالي، لا توجد حكومة مستعدة لإطلاق عملة إلكترونية حكومية باستثناء الصين التي بدأت هذا المشروع منذ 5 سنوات تقريباً، وفيما عداها عملات تابعة لشركات، كان آخرها عملة «فيسبوك» التي قد لا ترى النور بسبب المشكلات التي واجهتها مؤخراً.
إن التركيز في الوقت الحالي ينصب على التقنيات التي تساعد في تجاوز الأزمة، ولكن التقنيات التي ستطور لضمان عدم حدوث الكارثة مرة أخرى قد تفوقها، كمّاً وانتشاراً، خصوصاً مع ارتفاع القيمة الاقتصادية لهذه التقنيات، كون الحكومات ستتسابق لشراء هذه المنتجات بهدف الوقاية من انتشار الفيروس. وإن كان الأطباء وعلماء العلوم الحياتية الآن يسعون للبحث عن لقاح للفيروس، فهناك جانب آخر من البحث العلمي يعمل على إيجاد الفرص الاستثمارية والتقنيات الواعدة لمرحلة ما بعد الفيروس. فالسوق متغيرة لا محالة، وصناعات عدة سوف تظهر لم تكن موجودة من قبل، وأخرى كانت مهددة بالانهيار، وزادتها الأزمة ضعفاً مثل قطاع التجزئة. والمؤكد أن عديداً من الشركات سوف تصبح من كبريات الشركات بعد انتهاء الأزمة، سواء لحسن التخطيط واستثمار الفرص، أو لمجرد الحظ والتوفيق، كما هو الحال لبرنامج «زووم»، الذي زاد مشتركوه بنسبة 700 في المائة في أقل من شهرين. والشركات، وإن لم تمارس نشاطها التجاري، في هذه الأوقات الصعبة، يجب ألا يقف نشاطها التخطيطي وعصفها الذهني للبحث عن فرص الاستثمار لما بعد هذه المرحلة.