عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

هل هناك درس من السويد في جائحة «كورونا»؟

بينما بدأت بعض الدول الأوروبية ترفع هذا الأسبوع بعض القيود المتشددة التي فُرِضت على الأعمال والأنشطة الاقتصادية بسبب جائحة «كورونا»، تستمر التساؤلات حول الطرق التي تعاملت بها الحكومات المختلفة حول العالم مع الأزمة، والتكلفة البشرية والاقتصادية الهائلة الناجمة عنها، وتحدث بالضرورة مقارنات بين الإجراءات التي فُرِضت في الدول المختلفة والنتائج التي أدّت إليها.
وفي الوقت الذي فرضت فيه أغلب الحكومات إجراءات متشددة للحدّ من انتشار العدوى بالفيروس الذي أرعب العالم، بدت السويد في نظر كثيرين نموذجاً متفرداً في تعاملها مع الجائحة؛ فقد اختارت طريقاً متساهلاً، ولم تسارع لفرض إجراءات متشددة في العزل لمواطنيها والإغلاق لمظاهر الحياة وأنشطتها، عكس جاراتها من الدول الإسكندنافية وأكثرية الدول الأوروبية الأخرى.
اعتمدت حكومة رئيس الوزراء ستيفان لوفين على حس المسؤولية الاجتماعية لدى مواطنيها، واكتفت «بالطلب» منهم تجنُّب الرحلات غير الضرورية في تنقلاتهم، والعمل من منازلهم حيثما أمكن، والتقيد بإجراءات النظافة، والبقاء في البيوت إذا كانوا أكبر من سن السبعين أو يشعرون بالمرض.
إضافة إلى ذلك، أغلقت المدارس العليا، ومنع تجمع أكثر من خمسين شخصاً في مكان واحد، كما منعت الزيارات لدور الرعاية الاجتماعية لحماية كبار السن. فيما عدا ذلك بقيت المدارس الصغرى مفتوحة، وكذلك المطاعم والمتاجر والمقاهي وصالونات الحلاقة، والناس يتحركون بحرّية في الأماكن العامة مع الحفاظ على مسافة «التباعد الآمن».
الحكومة السويدية بررت عدم اتخاذها لإجراءات مشددة في وقت مبكر بقولها إنها ترى مواجهة «كورونا»، مثل الماراثون وليس سباق 100 متر، بمعنى أنها تتبع سياسة النفس الطويل والتدرج، بدلاً من اتخاذ خطوات مبكرة ومتسرعة يمل منها الناس في وقت وجيز. فالهدف هو تغيير سلوك الناس بشكل متدرج، لكي يحافظوا على التغييرات المطلوبة في طريقة حياتهم، لأن المعركة مع «كورونا» قد تستمر لفترة طويلة.
وشرح وزير الداخلية ميكائيل دامبيري الأمر بقوله إن سياسات الإغلاق الكامل لم تكن حلاً لمنع انتشار العدوى في إيطاليا وإسبانيا وأميركا وألمانيا ودول أخرى، مضيفاً أن بلاده تعتمد على المسؤولية الذاتية للفرد إزاء المجتمع بدلاً من فرض قيود إلزامية شاملة، لأنه إذا لم يتحمل الأفراد مسؤوليتهم فلا فائدة لأي قيود يتم فرضها.
الواقع أن لهذه السياسة المتساهلة وجهاً آخر لا يتحدث عنه كثير ممن لفتتهم التجربة السويدية. فالحكومة هناك ترى أن أفضل سلاح في مواجهة «كورونا»، في ظل عدم وجود علاج ومصل واقٍ، هو أن يكتسب الناس مناعة من الفيروس، وهو ما شرحه أندرس تغنل كبير خبراء الأوبئة، بقوله إنه من الضروري أن يكتسب قسم من الشعب مناعة.
ورغم أن تغنل نفى أن يكون الهدف هو الوصول إلى «مناعة القطيع» بشكل سريع، إلا أنه أقر بأن سياسة كهذه (مناعة القطيع) لا تتعارض مع أهداف السويد. وأوضح قائلاً إن حبس الناس في البيوت لن يحقق الهدف المطلوب على المدى البعيد. فعاجلاً أم آجلاً سيخرج الناس من الحبس، وبالتالي سيواجهون احتمال الإصابة بالفيروس في ظل عدم وجود أمصال واقية، وعدم تحقق مناعة ذاتية (مناعة القطيع).
السويد بهذه الاستراتيجية تنضم إلى دولتين أوروبيتين أخريين، هما بريطانيا وهولندا، اتبعتا سياسة «مناعة القطيع»، بشكل واضح أو مستتر؛ ففي هولندا أعلن رئيس الوزراء مارك روتي تأييده لفكرة «مناعة القطيع»، عندما جادل بأن التباعد الاجتماعي لن يحل وحده المشكلة، بل سيكون تأجيلاً لها، وسيعني إطالة أمد التبعات الكارثية للفيروس. وبدا روتي متقبلاً لفكرة تعرض الهولنديين للفيروس بغرض تكوين «مناعة القطيع»، مما سيساعد في عودة الحياة الطبيعية بسرعة.
ورغم أن الحكومة الهولندية أمرت بإغلاق المدارس والمقاهي ودور السينما وأماكن العبادة والعديد من المكاتب، فإنها تركت للناس حرية في الحركة والتنقل. وقد سجلت هولندا حتى أول من أمس 27 ألف إصابة بفيروس «كوفيد - 19»، بينما بلغت الوفيات 2945.
في المقابل، فإن بريطانيا لم تقر رسمياً بأنها تنتهج سياسة «مناعة القطيع»، رغم أن مستشارها للشؤون العلمية وكبير مسؤولي الصحة اللذين يظهران بشكل منتظم مع الوزراء في المؤتمرات الصحافية بشأن أزمة «كورونا» تحدثا بشكل صريح عن هذا المفهوم، وأشارا إلى أنه في غياب علاج ومصل واقٍ، فإن المناعة الوحيدة التي يمكن أن تتشكل هي التي تحدث نتيجة إصابة عدد كبير من السكان بالفيروس ثم تعافيهم منه، مما يطور في النهاية «مناعة القطيع».
ورأى كثيرون في تأخُّر بريطانيا في فرض إجراءات العزل والإغلاق حتى 23 مارس (آذار) الماضي مؤشراً آخر إلى أن الحكومة تتبع هذه الاستراتيجية، لكنها لا تتبناها بشكل علني، لا سيما في ظل الانتقادات مع الارتفاع السريع في الإصابات التي بلغت حتى أمس أكثر من 98 ألفاً، بينما اقتربت الوفيات من 13 ألفاً.
كما حدث في دول أخرى، فإن اتباع هذه الاستراتيجية في السويد واجه انتقادات من سياسيين وخبراء وأطباء حذروا من خطورة الإجراءات المتساهلة التي تتبعها الحكومة، مشيرين إلى العاصمة استوكهولم التي بدأت تشهد زيادة في الإصابات.
ووقّع عدد من الأكاديميين والخبراء خطاباً مفتوحاً موجها للحكومة السويدية أواخر الشهر الماضي دعوا فيه إلى تطبيق المزيد من الإجراءات وسياسات أشد لحماية الناس والنظام الصحي الذي قد يواجه ضغطاً كبيراً مفاجئاً، مع ارتفاع الإصابات، لا يستطيع تحمله، ما يعني وفيات بالآلاف.
وأول من أمس، نشرت صحيفة سويدية أخرى، مقالة، انتقد فيها عشرون من الأطباء والمختصين هيئة الصحة العامة السويدية، داعين إلى فرض إجراءات صارمة لمنع انتشار العدوى، مشيرين إلى أن السويد تسجل وفيات أكثر عشر مرات مقارنة بفنلندا المجاورة، التي تتبع استراتيجية مختلفة، وتعتمد على إجراءات متشددة وصارمة. فالسويد سجلت 11445 إصابة بالفيروس، وبلغ عدد الوفيات 1203. في حين أن فنلندا سجلت 3237 إصابة و74 وفاة فقط. كذلك فرضت النرويج والدنمارك إجراءات مشددة في العزل والإغلاق والإصابات والوفيات فيهما أيضاً أقل.
السويد ستواجه اختباراً حقيقياً خلال الأيام والأسابيع المقبلة مع ارتفاع عدد الإصابات والوفيات، مما دفع وزير الداخلية إلى القول إن الوضع يزداد خطورة لا سيما مع الزيادة في الحالات في استوكهولم، ما يعني الانتقال لمرحلة التفشي المجتمعي لفيروس «كوفيد - 19». وقد تضطر الحكومة إلى اتخاذ تدابير أخرى، لكنها تبدو حتى الآن مقتنعة باستراتيجيتها في التمهل في فرض الإجراءات، واتباع سياسة متدرجة، مدعومة باستطلاعات الرأي التي أشارت إلى أن غالبية السويديين كانوا راضين عن أداء الحكومة.
الواقع أنه بغضّ النظر عما سيحدث في الفترة المقبلة في السويد، من حيث الإجراءات وعدد الإصابات، فإنه لا يوجد اتفاق حول أي من الاستراتيجيات المختلفة التي طبقت حول العالم، وأيها كان أفضل. كما أنه لا أحد يعرف ما إذا كانت ستحدث موجات أخرى من «كورونا»، في ظل عدم تطوير مصل، وكلام العلماء عن أنه قد يستغرق ما بين 12 إلى 18 شهراً. وربما يحتاج العالم إلى فترة مماثلة قبل التوصل إلى حكم على التجارب والاستراتيجيات المختلفة التي طبقت في مواجهة الجائحة بما فيها التجربة السويدية.