فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

يوميات المثقف بين السريحي والغذامي

مع فترة الانعزال الحالية، عمل الأستاذ بدر الخريف في هذه الجريدة على ملفين مهمين بعنوان «مثقفون سعوديون يتحدثون عن برامجهم اليومية في الحجر المنزلي»، الإجابات بعضها مثالي للغاية، والآخر منها واقعي وممكن. لطالما رُسمت صورة نمطية عن المثقف؛ بأنه المنسحب من تفاصيل الحياة اليومية، والمضرب عن الاشتراك بتفاعلات الناس وأذواقهم وصخبهم ودنياهم. وأنه حشر ذاته بالقراءة والكتابة ورفض الواقع ومارس التأمل للمجتمع من أعلى.
ورغم كل حمولة معنى المثقف التاريخية وتعدد استعمالاتها وتشعب إحالاتها، غير أن التنميط حد المبالغة في وظيفته، والتقديس لدوره، والتأليه لقيمته، كل ذلك أثبتت الأيام خلله وخطره. بل إن المثقف بات شريكاً للسلطة التي يعاديها في البلدان التي تمكنت منها الأزمات، وساهم في الانسدادات التي عانت منها المجتمعات، وهذا لا يصح على المثقف العربي وحده، وإنما على عددٍ كبيرٍ من المثقفين. وانتقاد المثقف وطريقة تعاطيه مع السلطة ومسبباته وجذور التنظير له محل نقاش طويل معلوم ومشهور.
لكنّ السبب الأساسي لهذه الكتابة يعود إلى مثالين ثقافيين؛ أولهما: مثال عبد الله الغذامي الذي فضّل التبسط مع متابعيه، وأشركهم ببعض يومياته في فترة الانعزال الحالية، فكتب أن زوجته تحلق له شعره بعد أن طال، وأنه تناول البيتزا المنزلية على الغداء. على النقيض يأتي المثال الآخر: سعيد السريحي الذي عدّ إشراك القراء في تفاصيل عادية لا قيمة له، ورد على الغذامي من دون أن يسمّيه قائلاً: «كيف أصبحت حلاقة الشعر قضية يتداولها مغرد مع متابعيه، واقتراح أن الزوجة تنهض بهذه المهمة حلاً وموضوعاً للتغريد، وأعجب كيف أصبح دخول المطبخ وتقطيع البصل، كمثال آخر، مغامرة تحتل تغريدات رجال كنت أعدهم من العقلاء؟».
منشأ هذا السجال أن السريحي ينطلق من نظرته هو لوظيفة المثقف، بوصفه المتجهم الصارم والمثقف العضوي المنخرط في إيضاح المستغلقات، والمنشغل بالكليات، والعامل على النظريات الشاملة، والمهتم بالمفاهيم العميقة، وهي نظرة تقليدية، وآية ذلك أن الدور الذي يتباهى به أهل الثقافة من تأثير وتثوير وتغيير خلّف نتائج كارثية، والمفهوم الحالي للمثقف إنما ينحصر بالخلق والإبداع وفتح آفاق معرفية لامعة، أو الإسهام بنصوص علمية ثرية، أو صياغة ونحت مفاهيم ومقولاتٍ حيوية، وهي وظيفة لا تتعارض مع تواضع المثقف وإدراك حقيقة أدواره العادية، لذا فإن إشراك الآخرين في اليوميات والتفاصيل أمر يعود إلى الإنسان نفسه سواء كان مثقفاً أو مهندساً أو فقيهاً، يعود إلى الإنسان واختياره، والمثقف لا يختلف عن أي إنسان آخر في معايير النقاش وتداول الأحاديث واليوميات.
إن معرفتنا بتفاصيل ويوميات غازي القصيبي وبخاصة في «استراحة الخميس» وغيره لم تلغِ قيمته السياسية والإدارية والثقافية: سجالاته ويومياته، علاقته بقرحة المعدة، وكبد البط، وضعفه أمام البرغر، وكسله بالرياضة... ورسائله الساخرة مع أصدقائه: رسائله مع الشيراوي، والخويطر، ومحمد عبده يماني، وسليمان السليم.
ومن قبل عرفنا عبر التاريخ تفاصيل حياة الفلاسفة ودقائقها. لباشلار حديث مصور من غرفته الصغيرة يتحدث عن «المكان» ويومياته، وكيفية شرائه للمستلزمات اليومية وبتفصيلٍ شديد. رولان بارت يحدّثنا عن جدوله اليومي، عن موسيقاه، عبثه وانضباطه. عبد الرحمن بدوي في جزء الحياة من سلسلته عن كانط تطرق إلى يومياته من الصباح حتى المساء: مشيه، غرامياته العاطفية مع الجميلات ومنهن ماريا شارلوتا ياكوبي، عن مكونات مائدته التي يشاركها مع زائريه. تحت فصلٍ بعنوان «يوم في حياة كانط» يكتب بدوي: «كانت قائمة الطعام تشمل عادةً ثلاثة أطباق: الأول حساء ولحم بقري طري، ثم طبق من أطباقه المفضلة (بازلاء غليظة، كافيار، سجق، جيتنجن... إلخ)، والطبق الثالث كان لحوماً محمّرة، ويختم بفاكهة الموسم أو حلوى، وإلى جانب هذا زجاجتان من النبيذ الجيد». وحدث أن تسمم من الجبن الذي يدمن أصنافه العديدة، ومن هواياته المعروفة لعبة البلياردو، بينما التزلج وكرة اليد وأحياناً البولينغ من هوايات مارتن هيدغر ويشارك جيرانه بالأحاديث حتى عن موعد ولادة البقرة، وكتبت كل تفاصيل يومه بسيرة تلميذه هانز جورج غادامير عنه في كتابيْه «طرق هيدغر»، و«التلمذة الفلسفية».
القصد من تلك الاستشهادات سواء كانت مفيدة أم لا - ولها مثيلاتها وأضعافها في سيرة كل فيلسوف - أن المثقف عليه أن يكفّ عن الشعور بالتفوق، وألا يذلّ المجتمع الذي يعيش فيه بأنه مبصر القرية الوحيد، إنما يمكنه النظر إلى مهنته ووظيفته بعينٍ ناقدة فاحصة، وأن يحاول إصلاح ذاته قبل الهجوم على غيره، وأن يخاطب نفسه وهو ينظر إلى وجهه في المرآة. ما يفيد من المثقف إنتاجه النظري، وما يطرحه قد يكون صالحاً أو طالحاً.
شخصياً لستُ من أهل «السوشلة»، بل من مناهضيها، ولم آتِ بمثالَي السريحي والغذامي للانتصار لأحدهما ضد الآخر. رغم رفضي لفكرة السريحي النخبوية عن المثقف فإنني أؤيد وألتزم طريقته حول اليوميات، إنني مع طريقته لا فكرته. وأؤيد فكرة الغذامي التي تخفف من نرجسية المثقف وتعاليه، ولكنني لا أفضل احتذاء طريقته، وهذا خيار للإنسان، وليس حكراً على الكتّاب أو غيرهم ممن يعرفون بالمثقفين.
لم تعد للمثقف أولوية، باتت المعرفة أشمل من وظيفته، إنتاج المعاني الكبيرة، والنصوص المحبوكة، والشروحات الحيّة، وإيقاظ العقل بالأفكار والمفاهيم هي الوظيفة الأهم لطالب المعرفة، سواء كان مثقفاً أو غير ذلك، وظيفة انتُقدت منذ عقود، وربما لم يخطئ رولان بارت حين قال: «المثقفون لا يصلحون لشيء».