د. عبد الغني الكندي
أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود
TT

السعودية في مفترق طرق بين كماشة المحاور والحروب الممكنة

يمكن القول إنَّ التحدي الرئيسي الذي يواجه المحور الرباعي الوستفالي، وتحديداً الدولة السعودية يتمثل بتغلغل تيار الإسلام السياسي في كل مفاصل الدولة وهياكلها الرسمية وغير الرسمية، وتشبع رأسمالها الاجتماعي بمبادئ وقيم ومفاهيم وتصورات دينية تتجاوز الحدود الجغرافية للدولة وكيانها السياسي، والتي انعكست في بنية الشخصية الاجتماعية الفردية وفي الوعي السياسي الجمعي.
والأسوأ من كل ذلك أن بعض فصائل القوى المدنية الحرة وحركات المجتمع المدني، جهلاً أو عمداً، دمجت مطالبها مع تلك الحركات الوظيفية، أو اشتركت في خطاب سياسي موحّد مع بعض الفصائل والقوى الدينية والإخوانية التي توظف الشعارات الليبرالية توظيفاً براغماتياً لتحقيق أجندتها الداخلية وخدمة مصالح المحاور الأخرى. وبالتالي أصبحوا - جهلاً منهم أو رغبةً في تحقيق بعض مطالبهم المشروعة - شركاءَ في تحقيق مشاريع تلك الحركات الوظيفية التي تخدم أجندة المحاور الإقليمية الأخرى والتي تسعى إلى تقويض تدمير بنية دولهم ومؤسساتها الرسمية.
ولأنَّ استراتيجيات كلا المحورين الأول: الأحادي الشيعي، والثاني: الثنائي الإخواني تكمن في تقويض الصيغة الوستفالية الحديثة للدولة المدنية، وإحلالها بقوى وفصائل دينية وآيديولوجية تنتمي لها بالولاء والانتماء السياسي، قام كلا المحورين بتغيير الوضع الجيواستراتيجي لتوازن القوى عبر تشكيل كماشة استراتيجية دائرية تلتف حول المحور المحور الرباعي الوستفالي (السعودية ومصر والإمارات والبحرين)، حيث قامت حكومة طهران بتطويق هذه الدول، وشرقاً وشمالاً من العراق وسوريا، وبالمقابل وظّف المحور التركي حكومة الدوحة كمخلب قط للاستمرار بمحاصرة المنطقة بدءاً بنشر قواعده العسكرية في قطر، وشمال العراق، وشمال سوريا، والصومال، وحتى ميناء سواكن في السودان. ومما يدل على علاقة الارتباط بين تقويض الدول المركزية وتوجهات هذين المحورين أن انتشار وتمدد نفوذهم الإقليمي والعسكري يكون في الغالب في الدول الفاشلة أو المفككة. وفي حقيقة الأمر فإن هذا المشهد الجيوسياسي مثير للقلق ويشكل تهديداً استراتيجياً لمقومات بقاء الدولة للمحور الثالث وتحديداً لبقاء الدولة السعودية، حيث يبدو جليّاً تقاطع المصالح والأهداف الكبرى وتماثل الوسائل والقيم الآيديولوجية بين المحور الإيراني الشيعي من جهة والمحور التركي والقطري الإخواني من جهة أخرى. فالمحوران يجمعهما مشروع متجانس ومشترك يقوم على تفكيك الدولة الوستفالية الحديثة عبر آليات البروباغندا الإعلامية، ودعم حركات الإسلام السياسي التي تعمل خارج المنظومة الرسمية للدولة.
واللافت للنظر أن الموقف الأمريكي في تفاعل تلك المحاور الثلاثة غير حاسم ونهائي، ويكمن في اللعب على تناقضات الصراع الإقليمي لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح الممكنة، وتقليل القدر الأكبر من تكلفة الخسائر المحتملة في ظل الرغبة الأميركية في الحفاظ على توازن القوى الذي لا يهدد مصالحها الاستراتيجية بالمنطقة أو يشكل تهديداً للوجود الإسرائيلي. وبالتالي من الممكن أن تتنامى احتمالات آفاق نشوب الحرب الكبرى بين المحاور مما يدفع أمريكا للتدخل العسكري في حال التيقن من اقتراب إيران لسلاح نووي قد يهدد الأمن القومي الإسرائيلي وموازين القوى بالمنطقة، أو إغلاق مضيق هرمز مما يهدد حركة الملاحة الدولية وفاعلية الاقتصاد العالمي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية. ولذلك فإن استمرار إيران في إحداث تغييرات جذرية وجوهرية في قواعد اللعبة السياسية وخلخلة توازن القوى داخل المنظومة الإقليمية، ورفض كل مشاريع التسوية الدبلوماسية بما يكفل بوضع ترتيبات أكثر عقلانية ومرونة في الحفاظ على السلم والاستقرار الإقليمي والدولي سيرفع من إمكانية نشوب حرب إقليمية ودولية.
ولكن المعضلة الحقيقية الأكبر تكمن في أن تحقيق الأمن الإقليمي مشروط بتفكيك العلاقة الجدلية بين قوالب الثنائيات الصلبة التي ولدتها الصراعات السياسية والفكرية لتلك المحاور والتي بسببها أصبح الوعي الجماهيري يعيش في مفترق طرق بين (دولة وستفالية حديثة أو خلافة إسلامية) (دولة مركزية أو دولة فاشلة متنوعة المراكز السياسة) (هوية وطنية جامعة مانعة أو هويات متشظّية دينية وعرقية ومذهبية) (شرعية تقليدية أو شرعية اقتصادية) (مرجعية سياسية نهائية للملك ورئيس الدولة أو للملالي والمرشد والمفتي) (ممارسة الحكم السياسي من المؤسسات الرسمية للدولة أو من دور العبادة والمساجد) (التمييز الهوبزي بين الله كملكٍ لامتناهٍ، والسلطان كملكٍ متناه). وهذه الاشتباكات المفاهيمية داخل بنية الثقافة السياسية والوعي العربي والإسلامي كان قد أشار إليها عالم السياسة صموئيل هانتنغتون بأطروحته أن «الثقافة السياسية الغربية تقوم على قاعدة دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، في حين أن الثقافة السياسية الكونفوشوسية تعتقد أن قيصر هو الإمبراطور، والله هو القيصر في الثقافة السياسية الإسلامية»، ويقصد بذلك أن تركيبة الثقافة السياسية عند المسلمين تقوم على نظرية الحاكمية لله في التشريعات السياسية والدنيوية، ولا تسوّغ عملية الاختصاص الوظيفي المستقل في مجالات الشأن العام لكل من الدين والسياسة، أو فك إجراءات التداخل التنظيمي والقانوني بينهما.
وأخيراً فصفوة القول هي أن الشرق الأوسط يعيش مرحلة انتقالية حرجة مماثلة لديناميكيات الحروب الدينية الأوروبية في القرن الخامس عشر، والتي أفرزت إرهاصاتها الدولة الوستفالية في العام 1648.
فإمَّا أنْ تحسم هذه الدول خياراتها بتعزيز مركزية الدولة الوطنية في الوعي الجمعي، أو أنَّ الانفلات والفوضى سيكون مصيرها التاريخي المحتوم. وعلى خلاف العبارة الفلسفية الشهيرة التي أطلقها أيقونة الأدب الوجودي الروائي دستوفسكي في روايته الشهيرة «الإخوة كارامازوف» ووجدت صدى واسعاً في الجدالات الفلسفية والخطاب الديني وكافة المذاهب الوجودية بأنَّه «إذا غاب الله، فإنَّ كلَّ شيء مباح»، وإنَّ على عالم السياسة أنْ تكونه عبارته الأبدية والخالدة «إذا غابت الدولة، فإنَّ كل شيء مباح».
أمَّا على صعيد الوعي السياسي فهو يعيش في مفترق طرق بين مفهوم الدولة أو اللادولة، أو مفهوم الدولة المركزية أو الدولة الفاشلة. وجملة هذه التناقضات المفاهيمية والسياسية لربما قد تنتهي بإرادة توافقية مشتركة وحلول دبلوماسية عقلانية وهو ترتيب استثنائي الحدوث. أو قد ينتهي الأفق المفتوح لهذا الصراع الجدلي بين المتناقضات السياسية بحتمية إرادة حركة التاريخ التي تنتج صيرورات أوسع في مجال الحريات الفردية، وانفتاح أفق الوعي السياسي نحو ترسيخ مفهوم مركزية الدولة في الوجدان العام. ولكن شرط إرادة التاريخ لإنتاج أفق هذه الإمكانية الأفقية المتطورة، وفق رؤية الفيلسوف هيغل، مرهون بحرب حتمية تنطوي على معانٍ معرفية وأخلاقية سامية، كالتي شهدتها الدول الأوروبية لإنتاج الدولة الوستفالية الحديثة أو باللغة الهيغلية إنتاج الدولة كعقل مطلق أو كمرحلة أخيرة في صيرورة نهاية التاريخ. إذ أكد هيغل أن الحرب هي «القوة المحركة لتطور الفكر والمجتمع والتاريخ، ومفيدة لصحة الشعب الأخلاقية، وتنتج العديد من الفضائل الاجتماعية والعسكرية مثل الشجاعة والتضحية بالنفس من أجل الآخر والإحساس بأهمية الانتماء إلى المجموع... ولذلك فإنَّ الحرب هي الريح الضرورية التي تحرك المياه الآسنة للتطور التاريخي للمجتمعات الإنسانية».
وإن كان النفس والوجدان والعاطفة، بالنسبة لي، تميل للخيار السلمي لحل كل تلك المتناقضات في المشهد السياسي، وهذا ما أتمناه، إلا أنَّ عقل التاريخ قد يقتضي خيارات عسكرية حتمية لحسم هذا الجدل التاريخي في بعض الحالات المعرفية والسياسية المتصلبة وهذا ما أخشاه.
- باحث سعودي - قسم العلوم السياسية في جامعة الملك سعود
- مقال من جزأين نشرنا الجزء الأول منه يوم الأحد الماضي