أعود لموضوع الفكاهة في العراق فأقول إنه البلد الذي لم يشتهر في العصر الحديث كما اشتهرت مصر بالظرفاء، ولكن في الواقع أنه كان هناك عدد غير قليل من المنكتين والظرفاء الذين تميزوا في العهد الملكي، في أيام الخير، كعبد المجيد الشاوي والدكتور فايق شاكر والقاضي عبد العزيز الخياط، وطبعا الشاعر الشعبي، عبود الكرخي.
ومن الملاحظ أن الكثير من ظرفاء البلد كانوا من بين أصحاب الحرف، ولا سيما الحلاقين والخياطين والقهوجية. اشتهر من هؤلاء عبد الله الخياط الذي رويت عنه الكثير من المقالب والممازحات. جاء رجل بدوي يوماً وفي يده قطعة قماش من أربعة أذرع وطلب منه أن يخيط له دشداشة منها. فقال له على العين والراس. وعندما لاحظ الرجل هذا القبول السريع منه قال له، لا، بل اعمل دشداشتين منه. على العين والراس، قال له الخياط. فطمع الزبون في أكثر من ذلك. قال اعملها ثلاث دشداشات. وبعد قليل رفع الرقم إلى أربع دشداشات، وعبد الله الخياط يقول له على العين والراس.
عاد البدوي بعد بضعة أيام ليتسلم الدشداشات الأربع فإذا به يجد أربع دشداشات صغيرة لا تصلح لغير الدمى. وعندما ثار الأعرابي على ذلك استشهد الخياط بتحكيم أرباب الدكاكين في السوق فغصوا بالضحك عندما سمعوا بحجم قطعة القماش التي جاء بها وعدد الدشاديش التي أراد منها!
كانت أيام خير وكان مجلسه عامراً بالفكاهات والتلطف. ولكن ضيوفه كثيراً ما أرهقوا ميزانيته المحدودة. جاءه يوماً عدد غير قليل من أشراف بغداد بدون موعد أو استعداد. وكانت عادة العراقيين في أيام الخير ألا يبخلوا على ضيفهم بشيء فيقدمون له أطايب الطعام حالما يحين موعد الغداء أو العشاء. ولكن عبد الله الخياط لم يملك عندئذ ما يقدمه لهم ولا ما يشتري به من طعام لهم. ومع ذلك فقد فرش لهم الحوش بالحصير والسجاد وجلس يسامرهم. ما هي إلا دقائق حتى وجدوا أمامهم سفرة عامرة بالرز واللحم والخضراوات من باميا وباذنجان وجزر وسلطة وكل شيء. أكلوا هنيئاً مريئاً ثم قاموا للانصراف شاكرين. بحثوا عن أحذيتهم فلم يجدوها. فسألوه عنها فأجابهم قائلاً: أي قنادر؟ ما أنتم أكلتوها الآن. قالوا: ما هذا؟ ما تقصد؟ أكلنا قنادرنا؟ فقال لهم: جئتم بغير موعد، وجلستم تنتظرون الطعام، وأنا رجل مفلس. لم يكن لي غير أن أبعث بأحذيتكم رهناً عند المطعم ليعطيني من الأكل ما أكلتم. ابعثوا له بفلوس الأكل وفكوا أحذيتكم من الرهن. ضحكوا على المقلب ولم يجدوا مفراً من دفع ثمن عشائهم!
ومن الحكايات التي رويت عنه أيضاً أن امرأة استوقفته في الطريق وطلبت منه أن يقرأ لها رسالة من ابنها، وكانت سيئة الخط لدرجة تعذر له أن يقرأها. وعندما لاحظت سكوته تصورت أن ابنها قد مات أو أصابه سوء. راحت تتوسل بالخياط أن يقول لها ما في الرسالة. ولكنه اعتذر فقالت له: ما تقدر تقرا سطرين مكتوب ولابس هالعمامة على راسك؟ فنزع عبد الله الخياط العمامة من رأسه ووضعها على رأسها. يا الله تفضلي أنت أقري المكتوب!
معظم الظرفاء يعيشون على فكاهاتهم ومقالبهم. وكذا كان يفعل عبد الله الخياط. والاسم عبد الله شائع. وهكذا صادفه حمال في الطريق محملاً بالأطعمة. سأله الحمال: وين بيت عبد الله؟ فوجهه إلى بيته. وعندما أدرك صاحب البضاعة ما حصل، لم يجرؤ على مطالبة عبد الله الخياط بتسليم البضاعة له. اعتبرها نكتة جديرة بالضحك والاستئناس.
TT
من ظرفاء بغداد
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة