فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

روسيا وتركيا و«كوفيد ـ 19»

يناقش خبراء روس، بنشاط متزايد في الأيام الأخيرة، تفاقم الوضع مع فيروس «كورونا» في تركيا، وباتوا يراقبون بقلق الانتشار السريع لهذه الجائحة في هذا البلد. منذ فترة قريبة جداً، كان الخبراء الأتراك خلال المناقشات عبر البرامج التلفزيونية يشرحون سبب عدم وجود أي إصابة في تركيا، مع أن الكثير من البلدان كانت تملؤها الإصابات، بتمتع جميع الأتراك بمناعة طبيعية ضد {كوفيد - 19}؛ مما يجعلهم محصنين من الإصابة بهذا المرض.
وزير الصحة التركي فخر الدين قوجة هو أيضاً كان قد أدلى بتصريحات شجاعة في هذا الصدد. ومع ذلك، فقد تبدد هذا الوهم. ففي حين أن أول إصابة في البلاد ظهرت فقط في 9 مارس (آذار)، وفقاً لتقارير رسمية، فإنه في 26 مارس أبلغت وسائل الإعلام عن 2443 إصابة، بما في ذلك 561 حالة خلال يوم واحد، و59 حالة وفاة (أعلن عن الأولى منها فخر الدين قوجة في 17 مارس). بالطبع إن هذا الوضع ليس كما في إيطاليا أو إسبانيا، لكن سرعة التفشي كبيرة بشكل مروع. التوقعات مختلفة - بدءاً من التفاؤلية (مع أن الأوروبيين مؤخراً كانوا متفائلين أيضاً)، ووصولاً إلى ما هي في غاية الكآبة. أحد هذه التوقعات الكئيبة طرحها الخبير التركي هالوك تشوكوجراس (Haluk Cokugras) من جامعة إسطنبول، الذي قال في مقابلة على إحدى القنوات التلفزيونية، إن تركيا في الأسبوعين المقبلين يمكن أن تتجاوز إيطاليا من ناحية حجم الكارثة.
ليس خفياً سبب اهتمام الروس بهذا الموضوع؛ أولاً، لأن روسيا ليس لديها مصلحة بتفاقم الوضع الداخلي والأزمة الاقتصادية في هذا البلد، الذي يعد شريكاً تجارياً واقتصادياً مهماً لها، بما في ذلك في تشييد منشآت كبيرة مثل «السيل التركي 1 و2» ومحطة الطاقة النووية «أكويو»... الخ. ثانياً، نظراً لوجود عشرات الآلاف من العائلات الروسية - التركية المختلطة في تركيا ممن لهم أقارب كثيرون في روسيا. ثالثاً، لأن المنتجعات التركية هي المكان المفضل لدى الروس لقضاء إجازاتهم. فلقد زار تركيا في العام الماضي نحو 6 ملايين سائح من روسيا واستخدم الكثير من الروس خدمات شركات الطيران التركية للسفر إلى بلدان ثالثة.
في الوقت الحالي، وبداية من 23 مارس، قلّصت روسيا بشدة رحلاتها إلى تركيا، باستثناء رحلة شركة طيران «إيروفلوت» إلى إسطنبول ورحلات خاصة (شارتر) لإجلاء جميع مواطنيها من هذا البلد. في الأيام الأخيرة، تم نقل الروس من تركيا بالطائرات ضمن إطار حملة واسعة لإجلاء جميع المواطنين الموجودين في الخارج. وهؤلاء آلاف عدة من الأشخاص، من بينهم الكثير ممن يحتمل إن كان لديه اختلاط مع مرضى بفيروس «كورونا». تدابير مكلفة يتم اتخاذها لفحص العائدين وتسجيلهم وضمان وضعهم في الحجر الصحي المنزلي.
بشكل عام، فإن الاتجاه الرئيسي للاستراتيجية الروسية لمكافحة انتشار فيروس «كورونا» ليس في اتخاذ أي تدابير عقابية، وإنما في الحد من الاختلاط بين الناس إلى أقصى درجة، وصولاً إلى الإغلاق المؤقت لعدد من شركات الإنتاج والخدمات، إضافة إلى تقييد حركة المواطنين في جميع أنحاء البلاد، على الرغم من أن بعض هذه التدابير ستكون لها تداعيات سلبية على الاقتصاد. تساعد، في هذه الحالة، «وسادة الأمان» على شكل صندوق احتياطي في التغلب على الصعوبات. أذكر هنا في هذا السياق، كيف أن بعض الاقتصاديين انتقدوا بشدة وزير المالية السابق أليكسي كودرين، الذي كان المبادر الرئيسي لإنشاء صندوق احتياطي مالي قوي ومحصن. اعتبرَ منتقدوه أنه من الضروري استثمار هذه الأموال في الاقتصاد الحقيقي وتطوير البنية التحتية. لكن فيروس «كورونا» أظهر صحة السياسة المتبعة التي وضع أُسسها ودافع عنها كودرين. الأصول المالية تساعد في إنقاذ الاقتصاد. أما المواطنون الروس فقد توقفوا اليوم عن السفر إلى خارج البلاد.
ومع ذلك، فإن المساعد الرئيسي للوباء هو الاستهتار وعدم المسؤولية. المواطنة الروسية، التي عادت من إجازة في تركيا إلى مدينتها «فياتكا»، لم تجد شيئاً لتقوم به سوى الذهاب على الفور لزيارة أصدقائها، وبعد ذلك تم اكتشاف إصابتها بفيروس «كورونا». تماماً مثل المغني الشعبي ليف ليشينكو، الذي عاد مؤخراً إلى موسكو من الولايات المتحدة عبر باريس، ورغم الأعراض الأولى للمرض، ذهب إلى للمشاركة في حفلة مسائية ومن ثم إلى برنامج تلفزيوني. كانت هذه والكثير من الحالات الأخرى حجة مهمة لصالح اتخاذ تدابير صارمة ضد عدم المسؤولية. لقد تم ذكرها بالفعل في وسائل الإعلام العالمية، لكنني سأتطرق إلى واحدة فقط من أكثر الإجراءات العقابية صرامة التي اقترحها البرلمانيون الروس ضد منتهكي الحجر الصحي المنزلي من المصابين بالفيروس. في حال مات شخصان أو أكثر من المصابين نتيجة انتقال العدوى من هؤلاء المخالفين، فعندئذ يجب أن يواجهوا السجن لمدة تصل إلى 7 سنوات. ومع ذلك، فإن هذا الإجراء هو الأشد ولا تستخدم أي قسوة معينة ضد المواطنين. على سبيل المثال، يجب أن يلزم المواطنون الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً المنزل لمدة أسبوعين ويسمح لهم بمغادرته فقط في حالات الضرورة القصوى (إلى محل البقالة أو إلى الصيدلية). ومع ذلك، في حال جرى انتهاك هذا النظام لن يقوم أحد بتغريم كبار السن، وإنما تناشدهم السلطات الاعتماد على وعيهم وشعورهم بالحفاظ على الذات.
دعونا نذكر سبباً آخر لأهمية الوضع في تركيا بالنسبة لروسيا. فالتعاون العسكري التقني (توريد منظومات الدفاع الجوي الصاروخية S – 400)، بالإضافة إلى التعاون العسكري بين البلدين (المفاوضات المنتظمة والاتصالات بين العسكريين في سوريا، بما في ذلك في إطار عملية آستانة والدوريات المشتركة) أمور ذات أهمية بالنسبة لموسكو ليس فقط في إطار تنفيذ مهام سياستها الشرق أوسطية وأمن أفرادها المدنيين والعسكريين في سوريا، ناهيك عن المصالح الأمنية للحليف الروسي الذي تمثله دمشق، بل وفي إطار الأهداف العالمية أيضاً وعلى وجه الخصوص - تقليص احتمال نشوب نزاع خطير في علاقاتها مع دول «حلف شمال الأطلسي» (ناتو)، والتغلب على العدائية تجاه روسيا في مواقف هذه الدول.
من المهم أن إيطاليا هي الدولة الثانية بعد تركيا من بين دول «ناتو» التي لم تكن قيادتها خائفة من وجود الجيش الروسي على أراضيها. وعلى الرغم من محاولات بعض وسائل الإعلام الإيطالية، المستوحاة بوضوح من الخارج، للتشكيك في قيمة المساعدة التي تقدمها موسكو لبلدهم في مكافحة جائحة فيروس «كورونا» التي أخذت أبعاداً مروعة، تسود التقييمات الإيجابية لدى السلطات الإيطالية والأغلبية الساحقة من السكان، وقد وصل الأمر إلى أنهم رفعوا الأعلام الروسية في بعض الشرفات في مدينة بيرغامو وعزفوا بصوت عالٍ النشيد الوطني الروسي. أما المشاهدون الروس فلقد تابعوا عبر التلفزيون بدهشة، وسرور، عملية هبوط الطائرات العسكرية الروسية في مطار روما، وسير قافلة الشاحنات الروسية تحت الأعلام الروسية إلى شمال البلاد والتي كانت مزودة بمعدات وعلماء الفيروسات من العسكريين ذوي الخبرة الواسعة في التعامل مع الأوبئة الخطرة، بما في ذلك حمى فيروس إيبولا.
هناك وجهة نظر في دوائر الخبراء الروس تتحدث عن أن احتمالات اتخاذ مزيد من الإجراءات من قبل أنقرة في سوريا مرتبط بتطور الوضع مع فيروس «كورونا» في تركيا. إن ما يمكن أن يقيد نشاط أعمالها هو احتمال تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، وكذلك تطور الوضع السياسي الداخلي مهما كان مساره. بطبيعة الحال، سيكون من المهم أيضاً معرفة إلى أي مدى سيؤثر الفيروس على أفراد الجيش. فالجانب التركي لا يقدم في الوقت الحالي أي بيانات حول ذلك.
على كل الأحوال، فإن الروس، وعلى الرغم من بعض المشاكل التي تبرز بشكل دوري في العلاقات بين البلدين، سينظرون إلى مصيبة تركيا إن وقعت كأنها مصيبتهم. من المحتمل أنه سيتعين على روسيا في المستقبل أن تساعد دولة أخرى عضواً في «ناتو» في مكافحة الوباء هي تركيا. لكن من الأفضل للجميع في روسيا والشرق الأوسط، ألا يكون هناك ضرورة للقيام بذلك.