وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

التغييرات في سوق النفط بسبب {كورونا}

حتى في أقصى تخيلاتي، لم أكن أتوقع أن أستمع إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يقول يوم الاثنين إنه يريد أن يرى أسعاراً أعلى للنفط، لأن السعر الحالي متدنٍ جداً!
هذا ليس إلا أحد التغييرات التي يشهدها سوق النفط اليوم، وهناك مزيد منها. لكن قبل الحديث عنها، أريد أن أوضح حقيقة، وهي أن الولايات المتحدة تاريخياً كانت تدافع عن أسعار نفط لا تضر بالمنتجين هناك، إلا أن الصورة الذهنية السائدة تاريخياً هي أن دول منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) هي فقط من يدفع العالم للحصول على أسعار أعلى.
وفي حرب أسعار الثمانينات، تدخلت الولايات المتحدة حينها، وبذلت جهوداً لرفع أسعار النفط، لكن الإعلام يتجاهل ما تفعله الولايات المتحدة لحماية مصالح منتجيها، وفي الوقت ذاته لا يتهاونون عندما تبذل باقي الدول المنتجة في العالم جهداً لحماية مصالحها وشركاتها. وأنا سعيد أن العالم كله اليوم بدأ يفهم ماذا تعني أسعار نفط منخفضة. إن أسعار النفط المنخفضة التي قد يفرح بها المستهلكون اليوم، سوف تترجم إلى أسعار نفط أعلى في المستقبل، إذا توقفت الاستثمارات في الحفر والتنقيب والإنتاج. ولتشجيع الاستثمار في القطاع، يجب الحفاظ على استقرار السوق وضمان أسعار تشجع على الاستثمار.
وهذا يقودنا للحديث عن أول التغييرات، إذ إن الولايات المتحدة، التي تغير دورها الآن بسبب كورونا، وأصبحت تلعب دور دول «أوبك» في التنسيق العالمي مع المنتجين، والدفاع عن أسعار أعلى وعادلة تساعد على استمرار الإنتاج. ويوم الاثنين أجرى الرئيس الأميركي اتصالاً أراه تاريخياً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للحديث عن وضع الأسعار، واتفق الطرفان على أن أسعار النفط الحالية ليست في مصلحة البلدين، واتفقا على أن يُجري وزراء الطاقة في البلدين مشاورات حول السوق العالمية، بحسب ما ذكره المتحدث الرسمي للكرملين بالأمس.
التغير الثاني المهم، أن دول «أوبك» ذاتها بدأت تتحول إلى دور الولايات المتحدة من حيث التقيد بمبادئ السوق الحرة، وها هي السعودية وغيرها تنافس على حصص سوقية بطريقة عادلة، من خلال إعطاء تخفيضات واضحة على أسعار نفطها. لقد دعا كثير من الدول سابقاً أن تتبنى «أوبك» هذه السياسة، وأن تحرر سوق النفط، وينتهي دورها في الحفاظ على استقرار السوق، ويبدو أن القدر استجاب لمطالبهم، وانعكست الآية. وأتمنى أن يكون الجميع قد بدأ الآن في فهم أهمية دور «أوبك» للحفاظ على استقرار السوق، إذ لا تمتلك دولة أو مجموعة منتجين في العالم القدرة على إعادة الاستقرار للسوق، مثل ما تفعله «أوبك»، ولهذا من يقول بموت «أوبك» لا يفهم عمق دورها.
ولا أتصور أن هناك دولاً تقدر التنافس مع «أوبك» إذا تحول الجميع لاقتصاد السوق الحرة. ونحن نرى جدية السعودية في اتخاذ قرار الدفاع عن حصتها السوقية، بل تعظيمها كذلك، في ظل الانخفاض الكبير للطلب على النفط، الذي من المتوقع أن يصل إلى 20 مليون برميل يومياً خلال أسابيع قليلة، مع توقف حركة النقل عالمياً، إذا يستهلك قطاع النقل نحو 60 في المائة من الاستهلاك العالمي من النفط.
وسيتغير توزيع الحصص في السوق، ما يشهد الآن على جدية الأمر بالنسبة للسعودية، إذ إن بيانات الناقلات والشحن البحري تظهر أن المملكة صدّرت نحو 7 ملايين برميل يومياً خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر مارس (آذار)، وارتفع الرقم إلى 9 ملايين برميل يومياً في الأسبوع الأخير من مارس. وهناك الآن نحو 16 ناقلة عملاقة في رأس تنورة وينبع جاهزة لتحميل 32 مليون برميل، إضافة إلى 4 ناقلات عملاقة متجهة إلى الولايات المتحدة. وملأت السعودية صهاريج التخزين في سيدي كرير في مصر بنحو 1.3 مليون برميل لتجهيزها لسوق أوروبا. وعلى الأرجح، سوف تقدم «أرامكو السعودية» تخفيضات إضافية الأسبوع المقبل على النفط الذي ستبيعه في شهر مايو (أيار)، بحسب توقعات السوق.
هذا يقود للتغيير الثالث، وهو أن المخزونات النفطية بعد كورونا سوف ترتفع إلى مستويات أعلى من المستويات السابقة في 2016. والتي عانت «أوبك» وحلفاؤها في «أوبك+» لتقليصها على مدى 3 سنوات من الخفض الشاق والمؤلم. ولا يوجد مكان اليوم لتخزين النفط، حيث تبلغ الطاقة التخزينية العالمية 1.6 مليار برميل، وستشهد السوق ضخّ 1.8 مليار خلال النصف الأول. ولو أراد المنتجون الوصول إلى اتفاق جديد بعد كورونا، فإن الخفض الذي سيتم تقديمه أعلى بكثير من التخفيضات السابقة، وأشد صعوبة من حيث الالتزام، وسيتطلب هذا مشاركة لمجموعة دول أوسع من قبل.
وأخيراً، هل وعى كل المنتجون، بما فيهم روسيا، الذين عارضوا قرار «أوبك» والسعودية بطلب تخفيض إضافي قدره 1.5 مليون برميل يومياً، كل هذا؟ سيحتاج المنتجون إلى بذل جهد أكبر بعد كورونا لإعادة الاستقرار للسوق، في انتظار ميلاد نظام عالمي جديد للنفط، أم ستعود الأمور إلى سابق عهدها، ويُلقي الجميع الحمل على «أوبك» وحدها.