عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

العزلة في زمن «الكورونا»

تلقيت رسائل مقلقة من الخدمة القومية للصحة، ومن مصلحة الصحة العمومية، هنا في بريطانيا، أياماً قبل إصابة رئيس الوزراء بوريس جونسون، ووزير الصحة ماثيو هانكوك، و«حكيمباشي» الصحة العامة كريس ويتي، بالعدوى ودخولهم حالة الحجر الصحي الشخصي الانعزالي.
كان السؤال: متي؟ وليس: هل تصيبهم العدوى؟
فقد حضروا مؤتمرات، واجتمعوا في مقر الحكومة: 10 و11 داوننغ ستريت. المقر مجرد بيتين من الطراز اللندني بنيا في مطلع القرن الثامن عشر؛ الغرف ضيقة، وصالة الاجتماعات غرف مفتوحة بعضها على بعض، والممرات ضيقة، والسلالم ملتوية. مساحة غرفة نوم منزل عادية هي مكتب لأربعة في داوننغ ستريت، ورئيس الوزراء ووزير الصحة يزوران المستشفيات. العدوى غالباً كانت في داوننغ ستريت بيئة ملائمة لنقل العدوى في مؤتمرات الصحافية، أو اجتماعات يومية مع كبار الأطباء ووزير الصحة، ومسؤولي الخدمة القومية التي تتبعها المستشفيات العامة والأطباء الممارسون، وممثلي مصلحة الصحة العمومية المسؤولة عن معامل الاختبار والتطعيم، ومع أكاديميين من البحوث العلمية. رئيس قسم الأوبئة في الكلية الإمبراطورية أصابه الفيروس، وكان قد حضر اجتماعات طوارئ داوننغ ستريت قبلها، مع وزير الصحة والمسؤولين، وغالباً ستنتقل العدوى إليهم.
ماذا تعني عزلة الحجر التي دخلها رئيس الوزراء، وأنا فيها للأسبوع الثالث، بناء على خطاب الخدمة القومية للصحة؟
«سجلك الطبي أظهر أنك معرض للإصابة بمرض شديد الخطورة إذا التقطت فيروس الكورونا».. بداية رسالة خدمات الصحة العمومية لكاتب السطور، وبقيتها: «لا بد أن تبقي في عزلة؛ لا تغادر منزلك لـ12 أسبوعاً، حتى إشعار آخر. لا تفتح الباب لأحد، ويمكنك فتح النافذة للتهوية من حين لآخر. عندما تصلك الحاجات الأساسية، خاصة الأدوية، لا بد أن يتركها حاملها وراء الباب الخارجي؛ لا تفتحه إلا بعد مغادرة حاملها، ولا تلمسها بيديك، بل بقفازات الليتيكس، ثم تخلص من الأكياس، وطهر واغسل البضائع والفاكهة وكل ما يصل، ثم اغسل يديك لنصف دقيقة».
وتعليمات للتسجيل عبر رقم الصحة العامة الشخصي، وإعداد حقيبة صغيرة لأهم الحاجات والأدوية التي تتعاطها (اثنا عشر دواء في حالتي)، واسم الطبيب المعالج، في حالة انتقال طوارئ فوري للعلاج.
كان جونسون قد اضطر إلى إصدار تعليمات الحجر العام، وطلب صلاحيات الطوارئ من مجلس العموم، بفرض حظر شبه كلي على معظم النشاطات والتجمعات، بعد أن ضرب كثير من قطاعات الشعب، خاصة الشباب، عرض الحائط بنصائح مسؤولي الصحة بتجنب التجمع والاحتفالات.
وازن جونسون الإجراءات بنداء وجهه للشعب: «نقاوم الفيروس معاً»، فاستجاب نصف مليون متطوع للمشاركة في الحملة، بالعمل سائقين لتوصيل البضائع والخدمات والأدوية للمحاصرين في الحجر من أمثالنا.
من معرفتي الشخصية، بوريس جونسون ليبرتاري (يضع سيادة الفرد واستقلاله قبل تدخل الدولة في شؤونه بحجة المصلحة العامة)، وكان يأمل أن يتبع الشعب النصيحة طواعية، وهو سبب تردده وتأخر بريطانيا عن بقية الديمقراطيات الغربية في اتخاذ إجراءات فرض العزلة.
إجراءات العزلة التي يعترض عليها البريطانيون وراءها سلسلة من الضغوط والنشاطات المألوفة في الديمقراطيات البرلمانية الغربية: أولها كان الضغط المعنوي من الرأي العام، والسلطة الرابعة، ومنافستها الأخطبوطية وسائل التواصل الاجتماعي، بعد شكوى الأطباء والممرضات ومشغلي عربات الإسعاف من نقص معدات الوقاية من الفيروس. فخدمات الصحة القومية تعد «بقرة مقدسة» في وجدان الناس منذ تأسيسها قبل سبعة عقود.
دعوة على «فيسبوك» استجاب لها الملايين بالوقوف في النوافذ وعلى عتبات البيوت -والبلكونات النادرة العدد في بريطانيا- في الثامنة مساء الخميس للتصفيق تحية للعاملين في خدمات الصحة العامة. والإنجليز ليسوا بعاطفيين، ولا يعبرون عن مشاعرهم بسهولة، لكن الظاهرة كانت الأولى من نوعها، لتبين مكانة المؤسسة الفريدة من نوعها عالمياً في الضمير العام.
ضغوط أخرى على الوسائل نفسها، ومقابلات صحافية في مدار السلطة الرابعة، نقل فيها المراسلون انتقادات أطباء إيطاليا للمسؤولين البريطانيين عن الصحة، لتضييعهم وقتاً ثميناً قبل إجراء اختبارات موسعة لكشف حاملي الفيروس، واتخاذ إجراءات لاحتوائه، كالحجر الصحي للقادمين من بلدان موبوءة ومنع التنقل. إغلاق المصانع والأعمال التجارية جاء متأخراً ثلاثة أسابيع عن إيطاليا التي تتبع بريطانيا أرقام ضحايا الكورونا فيها بالمسافة الزمنية نفسها.
آثار الإجراءات لا تظهر إلا بعد أسبوعين على الأقل. فإذا كان شخص واحد ينقل العدوى لثلاثة آخرين قبل ظهور أي أعراض، وكل بدوره لثلاثة، فيصاب 27 شخصاً، وكل بدوره يصيب 27 آخرين؛ أي يمكن أن تصبح ربع مليون في ثلاثة أيام.
نشر هذه الأرقام شكّل ضغطاً آخر على رئيس الحكومة جونسون، بجانب ضغوط اللجان البرلمانية في مجلس العموم؛ لجنة الصحة العامة، ورئيسها جيرمي هنت الذي كان وزير الصحة لست سنوات (2012-2018)؛ ولجنة العلوم والتكنولوجيا، ورئيسها غريغ كلارك الذي تولي عدة مناصب وزارية لتسع سنوات. في جلسات منفصلة، استدعت اللجنتان المسؤولين عن الصحة والبحوث، ووزير الصحة، وكشفت تقصير الحكومة ووزارة الصحة العامة في توفير أجهزة الفحص والمعامل وأجهزة التنفس الصناعي الرئوي. اللجنتان تعمدتا أن تكون جلسات الاستماع مفتوحة، مما شكل ضغطاً علنياً كبيراً على رئيس الوزراء.
لجان أخرى (كالخزانة، والإدارة العامة والمحاسبة) استدعت وزراء المالية، والأعمال والمعاشات، ومسؤولي الخزانة، بعد قرار وزير المالية توفير 80 في المائة من مرتبات العاملين، في حالة إغلاق محال العمل، لمنع انتشار المرض. استجوبتهم عن الترتيبات بشأن غير الموظفين؛ ما يعرفون بأصحاب الأعمال الحرة، كسائقي التاكسي، والباعة الجائلين، وأصحاب المقاهي، وأمثالهم الذين تدخل ضرائبهم للخزانة قرابة 35 مليار جنيه (43 مليار دولار): كيف سينعزلون ويطعمون أسرهم؟ سيضطرون للعمل، مما يساعد على انتشار العدوى، خاصة في المواصلات!
وزير المالية اتخذ القرار، الخميس، بأحقيتهم بتلقي 80 في المائة من الدخل الشهري، وفقاً لسجل الإقرارات التي قدموها لمصلحة الضرائب في السنوات الماضية، بينما وجه تعليمات لبنوك وجمعيات ضمان الإقراض العقاري لتقسيط المنازل بمسامحة ثلاثة أشهر من دفع الأقساط. اللورد تشانصلور (رئيس مجلس شيوخ القضاء) أدخل تعديلاً مؤقتاً على لوائح المحاكم، بعدم إصدار حكم نافذ بالطرد من المسكن للمتأخرين في دفع الإيجار بسبب تعطلهم عن العمل لمقاومة الكورونا.
المفارقة أن القيود والتوازنات الديمقراطية والضغوط أجلت اتخاذ حكومة جونسون قرارات كحظر التنقل والعزل للحد من انتشار العدوى؛ قرارات تتخذها حكومات كالصين لحظياً، بلا تصويت برلماني.