د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

عالم ما بعد «كورونا» ودورة جديدة للتاريخ

عالم ما قبل وباء «كورونا» ليس عالم ما بعد الوباء. التعرف على هذا العالم الجديد في ظل التطورات الراهنة يبدو صعباً، ولكنه يستحق المجازفة الفكرية. المؤشرات الأولية توحي بتوقعات واستنتاجات سيكون لها دور في كتابة تاريخ جديد للعالم المعاصر. هناك من كشف وباءُ «كورونا» ثغراته وحدودَه وقدراته في الحفاظ على الإنسان كمرتكز للحياة بكل أبعادها، وهناك من أظهر الوباء إمكاناته التي تؤهله لقيادة العالم والتربع على قمته بعض الوقت، ليس لأنه يمتلك تقنيات حديثة وذكاءً صناعياً قابلاً للاستخدام في مجالات لا حصر لها وحسب، بل لأنه وضع حماية الإنسان على قمة أولوياته.
حين أصدر المفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» عام 1992، ومن قبل مقالته بعنوان «نهاية التاريخ» في دورية «ناشيونال إنتريست» الأميركية 1989 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نهاية ثمانينات القرن الماضي، كانت فكرته تدور حول أن منظومة الأفكار الليبرالية في السياسة والاقتصاد أثبتت قدرتها على البقاء في مواجهة الفاشية والشيوعية والاشتراكية، لما تتسم به من ديناميكية وقدرة ذاتية على التطور على عكس منظومات الأفكار الأخرى التي ثبت فشلها وسقطت تطبيقاتها في صورة نظم فاشية أو سلطوية واستبدادية، ولم تعد لها أي جاذبية، في حين انطلقت موجات التحول إلى النظم الديمقراطية لتثبت آنذاك أنها الأصلح، وأنها النموذج الذي لن يكون بعده نموذج للحياة والتطور الإنساني، ومن ثمّ فهي نهاية للتاريخ.
في ظل أزمة «كورونا» تبدو فكرة جاذبية النظام الليبرالي، وما يرتبط بها من أفكار أخرى كالسلام الديمقراطي والتضامن الإنساني، وعدم كفاءة نظم الضبط الاجتماعي بالمطلق، بحاجة إلى المراجعة استناداً إلى تطبيقات الدول الغربية مقارنةً بالتطبيق الصيني في مواجهة فيروس «كورونا». ونشير هنا إلى ثلاث ملاحظات أولية؛ الأولى أن نظم الصحة العامة في البلدان الرأسمالية أثبتت أنها أقل كفاءة مقارنةً بمثيلتها في الصين، حيث الدولة تسيطر تماماً على منظومة الصحة العامة. والفارق هنا أن النظم الرأسمالية تعتمد على منظومة صحية تقوم على الربحية والمنافسة بين الشركات المقدمة للخدمة أو المنتجة للدواء من أجل تعزيز المكاسب على حساب صحة الإنسان، ويظهر ذلك في عدم فاعلية نظم التأمين الصحي وعدم شمولها قطاعات كبيرة من المجتمع. ونتيجة لذلك واجه كثيرون انتشار الوباء وهم غير مشمولين بأي نوع من الرعاية الصحية، ومن لا يملك أموالاً كافية فليس أمامه سوى الموت في الشارع أو على عتبة باب بيته.
التطبيق الصيني أظهر سلوكاً مغايراً، فكل إمكانات الدولة الصحية والعلمية والتكنولوجية سُخرت من أجل حماية حياة الصينيين عبر تقديم خدمة صحية كفؤ، استطاعت أن تحاصر الوباء وأن تجد له علاجاً في مدى زمني قصير، وتجتهد بحماس كبير لإنتاج لقاح يحمي الناس ويحافظ على حياتهم. في المقابل نجد تخبطاً في السلوك الأميركي وعدم قدرة النظام الصحي العام، الهشّ أصلاً، أو حتى الخاص مرتفع التكلفة، على احتواء الوباء، فضلاً عن تدخلات الرئيس الأميركي ترمب لدى كبريات الشركات الدوائية لحثها على العمل المشترك من أجل إنتاج لقاح يقي الأميركيين، بما يعكس اليأس من قدرة نظم الربحية الصحية على مواجهة مخاطر كبرى كفيروس «كورونا». هكذا أثبتت فكرة الربحية عند تقديم الخدمة الصحية وهي السائدة في الغرب أنها نموذج مناهض لمبدأ الحق في الحياة، ما يعني أنها ليست تطبيقاً إنسانياً يصلح لأن يكون نهاية التاريخ.
الملاحظة الثانية تستند إلى ذلك البيان الشهير للرئيس الصربي الذي انتقد فيه دول الاتحاد الأوروبي التي امتنعت عن تقديم الدعم والمساندة لحكومته لمواجهة وباء «كورونا»، معتبراً أن المبادئ التي يتغنى بها الغرب عن التضامن الإنساني هي كلام فارغ لا يوجد إلا على الورق ولا أثر له في الواقع، حيث امتنعت تلك الدول عند تقديم المساعدة لبلاده، مشيراً إلى أن المساعدة ستأتي من الصين، فهي الصديق وليست دول أوروبا التي يشاركها منظومة إقليمية واحدة.
موقف رئيس صربيا يفضح تماماً السلوك الغربي الليبرالي في مواجهة محنة إنسانية عامة لكل البشر، فبدلاً من التضامن وتقديم المساعدة، انكفأ كل طرف على ذاته وحافظ على ما لديه من مواد طبية وأجهزة طبية من أجل شعبه، وهو ما يمثل تحدياً لفكرة الوحدة الأوروبية ذاتها، صحيح هناك مشاورات ومباحثات عبر «الفيديو كونفرانس» بين زعماء أوروبيين بارزين للتنسيق في مواجهة وباء «كورونا»، لكنه لا يشمل التعاون، لا سيما مع دول الاتحاد الأصغر والأضعف، وهو ما يضرب في الصميم مبادئ الوحدة الأوروبية وقيم التضامن الإنساني التي يستغلها الغرب في إظهار تفوقه القيمي على باقي العالم.
هذا الانكشاف الغربي إنسانياً يقابله سلوك صيني تضامني بدا جلياً في إرسال أطباء ومعاونين وأجهزة إلى إيطاليا لمعاونتها لمواجهة الوباء الذي قصم ظهرها على نحو غير متوقع. والأمر فعلته الصين مع مصر، حيث قدّمت لها 1000 كاشف حديث للفيروس ومدونة سلوك صحية لمواجهة الوباء مستندةً إلى خبرة فعلية.
الملاحظة الثالثة تتعلق بدور التكنولوجيا الحديثة المصحوبة بفكرة الدولة الفاعلة والمجتمع المنضبط في مواجهة وباء شرس وخطير يمكنه في حالة ميوعة المواجهة أن يقضي على ملايين البشر. وهنا تبدو الدولة التي يراها الغرب مستبدة أو على الأقل مسيطرة على حركة المجتمع من خلال آليات غير ديمقراطية، أكثر فاعلية في حالات الخطر الوجودي. ففي حالتي إسبانيا وإيطاليا وإلى حدٍّ ما بريطانيا والولايات المتحدة، فإن أسلوب المواجهة في مرحلة احتواء الفيروس الذي يعتمد على إجراءات ذات طابع اختياري، أثبت فشله التام، وهي حالات رغم تقدمها الاقتصادي بوجه عام فقد ثبت أن أنظمتها التكنولوجية غير مؤهلة للمساعدة في تقديم خدمة طبية كفؤ على المستوى المجتمعي، إذ ليست لديها أنظمة التعرف على الوجه، ولا قدرة لها على التعامل مع «البغ داتا»، التي هي أصل مجتمع المعلومات وبناء المعرفة، على الأقل في المجال الصحي العام، وذلك على عكس الحالة الصينية. مع الأخذ في الاعتبار أن تطبيقات التعرف على الوجه تشكل تحدياً لحرية الإنسان في ظل الظروف العادية، ولكنها أثبتت فعاليتها في ظل ظرف استثنائي تمر به البشرية كلها. ولعل المرحلة المقبلة تشهد جدلاً فكرياً وفلسفياً حول كيفية توظيف تلك التقنيات لحماية الإنسان وفي الآن نفسه الحد من توظيفها لتقييد حريته.
الملاحظات الثلاث مجرد مؤشرات أولية على عالم ما بعد «كورونا»، وهناك الكثير الذي سوف يظهر تباعاً ليؤكد أن التاريخ البشري لديه الكثير لم يقدمه بعد، وأن نهايته فكرياً وفلسفياً وسلوكياً ما زالت بعيدة جداً.