لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

الحراك في الجزائر... عناد المؤسسات في مقابل صمود الشارع

مرت أكثر من سنة على انطلاق واحد من أطول الحراكات الشعبية في فصول ثورات الربيع العربي. إنه حراك الجزائر السلمي، الذي دخل عامه الثاني وسط إصرار شعبي لتحقيق ما يسميه الجزائريون «إسقاط فلول النظام»، وتحقيق «الحرية والديمقراطية» من دون عنف ومن دون مواجهات.
البداية كانت قبل سنة حين قرر الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، المشلول والمقعد على كرسي متحرك منذ 2013 (إثر جلطة دماغ حادة)، وبمساندة من شرائح عريضة من الطبقة السياسية الموالية، الترشح لولاية خامسة جديدة كرئيس للبلاد. ما دام أن المرشح الرسمي المدعوم من أحزاب الموالاة والمؤسسة العسكرية يكون «النصر» دائماً حليفه، فإن الجزائريين رأوا في عزم بوتفليقة الترشح مجدداً خمس سنوات أخرى من الجمود على رأس السلطة واستمرار الصراع بين الدوائر المقربة من قصر المرادية بما فيها الجيش والمخابرات وعائلة الرئيس وقادة الأحزاب المساندة للنظام.
انطلقت شرارة الحراك يوم 22 فبراير (شباط) 2019 ولمدة خمسة وخمسين أسبوعاً والجزائريون يخرجون على بكرة أبيهم كل يوم جمعة (والطلبة كل يوم ثلاثاء)، مطالبين برحيل كل «وجوه النظام» ووضع الأسس لـ«دولة حرة وديمقراطية». ماء كثير سال تحت قنطرة الأحداث في بلد المليون شهيد، وما زالت «ثورة الابتسامة» مستمرة تحقق المكاسب تلو الأخرى، بثبات وصمود قل نظيره في الدول التي شهدت ثورات في القرن الحادي والعشرين.
ضغط الشارع والمظاهرات المليونية لمدة ثلاثة أسابيع فقط، دفع بوتفليقة للتراجع عن نيته الترشح لعقدة خامسة، واقترح الاستمرار في الرئاسة إلى أجل غير مسمى للتدبير لمرحلة انتقالية. تنازل بوتفليقة يوم 11 مارس (آذار) 2019 جعل الجماهير الغاضبة تثق بقدرتها على تحريك المياه الراكدة، لهذا رفعت من شعاراتها لتضم «سقوط كل رموز النظام».
خابت آمال الطبقة السياسية الموالية لأن تراجع بوتفليقة لم يؤدِ إلى تهدئة الشارع، بل زاده تأجيجاً وارتفع منسوب المتظاهرين، وبدأ سقف المطالب يرتفع رغم تهديدات الفريق أحمد قايد صالح، قائد أركان القوات المسلحة.
سحب الجيش مساندته لبوتفليقة حين رأى أن الشارع مصر على التغيير، ما اضطر هذا الأخير للاستقالة من منصب الرئاسة يوم 2 أبريل (نيسان) 2019 ليأخذ عبد القادر بنصالح، رئيس مجلس الأمة، مكانه رئيساً لفترة انتقالية. رغم رفض المؤسسة العسكرية لمطالب الشارع حول ضرورة وضع مجلس تأسيسي لإعادة النظر في الدستور وتنصيب رئيس متوافق حوله وحكومة وطنية متوافق بشأنها كذلك، فإن الفريق قايد صالح وضع وراء القضبان كلاً من سعيد بوتفليقة، شقيق عبد العزيز بوتفليقة، وأحمد أويحيى وعبد المالك سلال، وزيرين أولين سابقين، بالإضافة إلى الجنرال المتقاعد توفيق (محمد الأمين مدين)، رئيس المخابرات العسكرية السابق، وغيرهم في محاولة للتفاعل إيجابياً مع شعار الشارع بشأن «إسقاط الفساد».
التنازلات لم تزد الشارع إلا إصراراً. وتوالت المظاهرات بينما انشغلت المؤسسات الرسمية في التحضير لانتخابات 12 ديسمبر (كانون الأول) 2019. رفع المتظاهرون شعارات ضد الانتخابات وبعد انتخاب عبد المجيد تبون رئيساً جديداً للجزائر (من طرف 20 في المائة فقط من الجزائريين، حسب مجلة «موندافريك» يناير/ كانون الثاني 2020)، ركز المتظاهرون شعاراتهم حول ضرورة رحيله كذلك.
محاولة المؤسسات الهروب إلى الأمام لم تعطِ ثمارها، وموت الفريق قايد صالح المفاجئ أسبوعاً فقط بعد الانتخابات لم يزِدْ الوضع إلا تعقيداً.
تكمن سياسة الرئيس الجزائري الجديد في محاولة التهدئة واحتواء مطالب المتظاهرين للتخفيف من وطأة ضغط الشارع. لهذا ركز على الحوار والانفتاح السياسي ووضع لجنة لتغيير الدستور وسن يوم 22 فبراير (تاريخ انطلاق الحراك) يوماً وطنياً.
بيد أن هامش الحركة الذي يتوفر عليه عبد المجيد تبون يبقى ضيقاً، لأن الحراك يعتبره رمزاً من رموز النظام، ولأن نسبة المشاركة في الانتخابات كانت متدنية جداً، وأيضاً لأن الوضع الاقتصادي يمر بأزمة حقيقية خصوصاً مع تدهور القدرة الإنتاجية وتقهقر دور قطاعات متعددة (غير ذات الصلة بقطاع المحروقات). لكن الرئيس تبون يراهن على عامل الوقت ومن ثم استخدام ورقة التدخل الأجنبي لتبرير عدم نجاح بعض السياسات العمومية. غير أنه يبدو أن الشارع لا تنطوي عليه ورقة المؤامرة الخارجية ويتشبث بكون «ثورة الابتسامة» جزائرية محضة.
نقطة قوة الحراك هي عدم وجود قوى داخلية أو خارجية تتحكم فيه. لهذا فالتعبئة تبدو شاملة، وأمل التغيير لم يفارق الجزائريين ثلاثة وخمسين أسبوعاً بعد انطلاق أول شرارة لرفض استمرار النظام الحالي. ولكن نقطة قوة الحراك هي في الوقت نفسه نقطة ضعفه: عدم وجود قيادة تتبنى مطالب واضحة وقابلة للتحقيق تجعل الكل يلتئم حول شعارات الثورة، ولكن دون أجندة سياسية محددة. فبمجرد بروز قيادة للحراك، من المحتمل أن تظهر انقسامات قد تؤدي إلى انخفاض التعبئة والمساندة الشعبية للثورة.
على أي حال، يراهن الرئيس الجزائري على التغيير في إطار الاستمرارية، بينما يؤكد الحراك ضرورة التدشين لقطيعة جذرية وتغيير النظام برمته. لقد قدم النظام تنازلات مهمة ومن الممكن أن يقدم تنازلات أخرى (إطلاق سراح المعتقلين ووضع مجلس تأسيسي لتغيير الدستور)... ولكنه كلما فعل ارتفعت مطالب الشارع. الأزمة غير مرشحة بأن تجد حلاً لها في المستقبل القريب، بيد أن الجزائريين مصرون على أن يكون الغد أفضل بكثير مما هي الحال عليه في الحاضر. ويبدو أنهم مستعدون للتظاهر سنة كاملة أخرى لتحقيق ذلك.