محمود الورواري
إعلامي مصري
TT

ما بعد دولة الخمسينات: المساءلة والمراجعات

خلالَ الأيامِ القليلةِ الماضية، رحلَ الرئيس الأسبق لمصر محمد حسني مبارك، عن عمر جاوز التسعين عاماً.
رحلَ الرجلُ بما له وعليه، تاركاً للتاريخ والأقلام الكلمة الفصل في مرحلته السياسية التي عاشها حاكماً لمصر منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وحتى فبراير (شباط)2011، وهو تاريخ تنحيه عن الحكم، إثر ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني).
استمر حسني مبارك 30 عاماً وقبله السادات وعبد الناصر. استمر صدام حسين 25 عاماً (وقبله من كان قبله).
استمر علي عبد الله صالح 36 عاماً (وقبله أيضاً من كان قبله). استمر حافظ الأسد 30 عاماً وورث ابنه بشار من بعده (يعني رئاسة ملكية). القذافي استمر 42 عاماً.
إذن بقليل من الحساب، يتضح أن عمر التجربة السياسية في العالم العربي منذ بداية خمسينات القرن الماضي هو 60 عاماً (متوسط بقاء الرؤساء حتى بداية 2011 هو 34 عاماً)، أي أن طوال هذه الحقبة لم يتبدل على الحكم سوى شخص أو اثنين، وغالباً إما بالموت، أو بالتبادل غير السلمي للسلطة. إذن في المجمل لم يحدث تداول سلمي للسلطة عبر تجربة ديمقراطية رصينة. لم يظهر دور مؤسسي ديمقراطي واضح. لم تنتج التجربة تربية سياسية صحيحة إطلاقاً.
***
لكن الواقع السياسي العربي يحتاج إلى نظرة سياسية تتجاوز فكرة رحيل رئيس بلد عربي إلى إعادة مراجعة حقيقية لحقبة سياسية عربية امتدت منذ بداية خمسينات القرن الماضي، بما عرف وقتها بـ«فترة التحرر الوطني»، أو ما سماها البعض «فترة ما بعد الممالك»، أو «التحول من فترة الاحتلال إلى فترة الاستبداد».
تلك الفترة التي اقتربت من 60 عاماً حتى بداية 2011، أي بداية موجة «الربيع العربي»؛ فترة تنحصر بين موجتين؛ موجة التحرر الوطني من المحتل الأجنبي، وبداية عهد الاستقلال (الخمسينات)، وموجة «الربيع العربي»، أي ثورة الشعوب (2011 وما بعده).
وبالتالي التاريخ يصنع نفسه، ويفرض منهج تحليله بنفسه، هنا ابتدأ وهنا وقف، وعلى المتابعين أن يبحثوا ويحللوا ما بين البداية والانتهاء.
60 عاماً إذن، منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي حتى 2011، هي زمن التجربة التي استغرقتها تلك المرحلة السياسية العربية.
تلك مرحلة تستوجب مساءلة عادلة وواعية وعاقلة؛ مساءلة خالية من التشفي السياسي، والتصيد، والأحكام المسبقة.
مساءلة تقوم على فكرة التجاوز والقفز بعيداً عن المطبات إلى أفق سياسي يقبل التعدد والتعايش.
***
في نهاية الستين عاماً التي سبقت 2011، ماذا كانت المحصلة؟
لم تنتج لنا تلك المرحلة دولة قوية بمؤسسات وطنية ديمقراطية قادرة على البقاء ومجابهة الأخطار المحدقة، وإنما أنتجت دولة ضعيفة ارتبطت بأسماء أشخاص أكثر من ارتباطها بالأوطان، بها مؤسسات على ورق أكثر مما هي مؤسسات واقعية وفاعلة.
والدليل أنه بعد موجة «الربيع العربي» الأولى والثانية لم يتبقَ من غالبية تلك الدول ما يمكن أن نسميه دولة ومؤسسات، ربما باستثناء مصر وتونس.
لم تنتج لنا تلك المرحلة مساراً سياسياً تشاركياً حقيقياً؛ فلا تعددية حزبية، ولا تداول سلمي للسلطة، ولا تأسست أحزاب قادرة على الصمود، حتى الأحزاب القديمة الراسخة صاحبة التجربة التي ورثتها الجمهوريات تآكلت في عهدها.
لم تنتج لنا تلك المرحلة شعوباً واعية قادرة على أن تكون مشاركة في صيرورة الحضارة العالمية؛ في الصناعة والتنمية والتقدم، وهنا ليس العيب في الشعوب، وإنما العيب في الأنظمة التي دمرت تلك الشعوب، دمرتها حين جردتها من أدق حقوقها؛ التعليم والصحة وتربية الوعي والوجدان.
بعد 60 عاماً أصبحنا شعوباً مستهلكة بامتياز، عالة على الحضارة العالمية، ممسوحة الوعي فاقدة لبوصلة أولوياتها، وهي حماية نفسها من نفسها، وحماية أوطانها. شعوب وجدت لتتقاتل، تورطت في فخاخ التمذهب والطائفية والعرقية. كل احتمى بنعرته أو بمذهبه، لم يتوان في القتل أو في التدمير، لا لشيء إلا ليقول لأبناء جلدته «أنا أقوى منكم».
شعوب عجزت عن خلق نخب قادرة على المواجهة والتحدث باسمها، بل تحولت إلى نخب خائنة وفاسدة، تواطأت على أوطانها، باعت تلك الأوطان مقابل طائفية بغيضة. ولعل العراق ما بعد 2003 نموذجاً على فساد تلك النخب. ولعل لبنان أيضاً يثبت ما أقول.
في المحصلة أصبحنا أمام دول هشة لم تكن تحتاج إلى ثورات طاحنة وقوية لتسقط.
إن الأنظمة التي سقطت بعد موجات «الربيع العربي» الأولى والثانية تثبت بالدليل القاطع، أنها كانت أنظمة آيلة للسقوط.
***
لماذا كانت الدول التي شهدت ثورات في 2011، وأقصد هنا الموجة الأولى (تونس - مصر - ليبيا - سوريا - اليمن)، والموجة الثانية (السودان - الجزائر)، والموجة الثالثة (لبنان - العراق).
لماذا اندلعت ثورات «الربيع العربي» في الدول ذاتها التي شهدت انقلابات عسكرية وثورات في بداية الخمسينات، وإنهاء ممالك وغيرها. ببساطة لأن البدايات الخاطئة تؤدي إلى نهايات خاطئة بل وكارثية أحياناً.
ماذا حدث بعد الخمسينات: ممالك سقطت، جمهوريات تأسست، انقلابات عسكرية، اغتيالات، حروب بين العرب وإسرائيل، هزيمة وضياع (سيناء - الجولان - شط الأردن - القدس الشرقية)، اقتتال داخل الوطن الواحد مثلما حدث في اليمن (شماله وجنوبه)، انتصار 1973، وظهور جماعات الإسلام السياسي.