جيمس ستافريديس
- أميرال بحري متقاعد بالبحرية الأميركية وقائد عسكري سابق لحلف الناتو وعميد كلية فليتشر للحقوق والدبلوماسية بجامعة تافتس < بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

تركيا... حليف أطلسي مشاكس

قُتل ما لا يقل عن 33 جندياً تركياً في مدينة إدلب السورية جراء القصف العسكري السوري بمعاونة من القوات الروسية ثم سقط 18 جندياً سورياً صرعى الغارات الانتقامية التركية. في حين توصف الظروف الراهنة لما يقارب 3 ملايين لاجئ ونازح سوري بأنها مفزعة، حيث يموت الأطفال تباعاً وتتحرك الجماعات الكبيرة للمسافات الطويلة سيراً على الأقدام، في محاولات يائسة للخروج من ميادين القتال المشتعلة في بلاد الشام.
كان ينبغي للحرب الأهلية السورية أن تنتهي بحلول الآونة الراهنة.
لكن الآن، سقطت ذبابة جديدة في قدر الزبد فلوثته: الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
عندما كنت القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي في المراحل الأولى من الحرب الأهلية السورية، كانت الحدود التركية السورية الطويلة والضعيفة، من أبلغ مصادر القلق العميق بالنسبة لنا. وطُرحت عليَّ التساؤلات مراراً وتكراراً في اجتماعات بلدان الحلف عن مغزى الدعم الروسي الكبير للنظام السوري في دمشق.
وأوضحت لهم أن الأمر يتعلق بالمزيد من مجرد رغبة فلاديمير بوتين في إظهار ولائه وتأييده لأحد الحلفاء القدامى. فلقد اعتقد أن التدخل العسكري المباشر في الأزمة السورية، من شأنه الإقلال من نفوذ الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، مع ضمان وصول روسيا إلى موانئ المياه الدافئة على البحر الأبيض المتوسط مع تعزيز بسط نفوذه في وجه إيران (التي تساعد بشار الأسد كذلك). كما يرغب فلاديمير بوتين في إظهار نفسه للشعب الروسي بمظهر اللاعب العالمي، الذي لا غنى غنه ولا يخشى أبداً الوقوف في وجه الغرب.
ولا تزال استراتيجيته المعتمدة متماسكة إلى حد كبير، ويبدو أنه سوف يحوز النجاح في مساعدة الأسد على سحق المعارضة في بلاده.
وكانت تركيا قد اتخذت موقفاً مناوئاً لبشار الأسد منذ بداية الأزمة، وانضمت إلى بعض فصائل المعارضة السورية لمدة سنوات، الأمر الذي أتاح لها نشر قواتها العسكرية في إدلب مؤخراً.
وعلى غرار فلاديمير بوتين، يحاول إردوغان السعي لفرض استراتيجية كبيرة في المنطقة. فهو يريد السيطرة على الحدود السورية بغية الحد من هجمات الأكراد من الجنوب، مع ممارسة النفوذ التركي عبر حدود الإمبراطورية العثمانية البائدة. كما يرمي إردوغان إلى إعلام قاعدته السياسية في تركيا أنه على غرار فلاديمير بوتين، رجل استبدادي بقبضة حديدية لا تُقهر. وهو يرى أن الغايات تستحق تعريض العلاقات الاقتصادية القوية بين البلدين للمخاطر، فضلاً عن السياحة من روسيا، والعلاقات الودية التي تجمعه بالرئيس الروسي.
ولم يكن إردوغان من الحلفاء المثاليين في الآونة الأخيرة: فلقد أرسل قواته لذبح قوات المعارضة المتحالفة مع الولايات المتحدة في سوريا، وشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية المتقدمة، والتهديد بإغلاق المنشآت التابعة لحلف شمال الأطلسي على الأراضي التركية، وذلك من بين استفزازات أخرى معروفة. ومع ذلك، أصبحت احتمالات المواجهة العسكرية ما بين روسيا وتركيا من أعمق مواطن القلق والتوتر لدى حلف شمال الأطلسي راهنا. فإذا ما انتهى الأمر باندلاع حرب مباشرة بين قوات البلدين، يمكن لإردوغان وقتئذ المطالبة بالدعم العسكري من بقية دول الحلف، في مواجهة قوة عسكرية كبرى هي روسيا.
لقد واجهنا مثل هذا الموقف من قبل. خلال فترة وجودي على رأس قوات الحلف، إذ شاهدنا العديد من الحوادث التي تنطوي على مواجهات بين المقاتلين، وأنظمة الدفاع التركية والروسية. وانتهى بنا الأمر إلى نشر بطاريات نظام باتريوت للدفاع الجوي في جنوب تركيا. وأجبر ذلك بشار الأسد وحلفاءه الروس إلى معاودة تركيز الجهود العسكرية على أجزاء أخرى من سوريا تفادياً للصدام العرضي مع قوات الناتو.
لكن في هذه المرة، وفي ظل وجود قوات برية كبيرة في أماكن قريبة مع المعارك المستمرة هناك، فإن فرص سوء تقدير الأمور صارت أعلى بكثير من ذي قبل، إذ أصر إردوغان على بقاء القوات التركية في مواقعها، وعدم التراجع خطوة واحدة إلى الوراء، في خضم المواجهات المتصاعدة أمام القوات الروسية. كما أعاد المطالبة مجدداً بإرسال بطاريات نظام باتريوت إلى حدود بلاده الجنوبية.
ومن وجهة نظر التحالف، هناك حفنة من الإجراءات المعنية بالتخفيف من حدة التوترات الراهنة، مع تفادي الصراع المفتوح الذي من شأنه تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف، التي تنص على أن الهجوم العسكري على عضو واحد من أعضاء الحلف، يعتبر هجوماً على الدول الأعضاء كافة. وينبغي على كبار قادة الحلف، فضلاً عن الأمين العام للحلف «ينس ستولتنبيرغ»، الاجتماع مع نظرائهم من الجانب التركي وتوضيح الأمر باتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لتجنب المواجهة مع القوات الروسية في ميدان المعركة السورية، وهذا بالطبع مما يسهل قوله عن تنفيذه.
يمكن لحلف شمال الأطلسي توفير ما تطلق عليه الجيوش المعاصرة اسم «فض النزاع» بين القوات الروسية والتركية، من خلال الإمداد بالمعلومات الاستخبارية رفيعة المستوى، بشأن انتشار ونيات القوات الروسية على الأرض. كما يمكن للحلف تقديم المعاونات الفنية ضمن جهود تطوير البروتوكولات الوقائية المعنية بتجنب القتال المباشر مع روسيا. وتقوم الولايات المتحدة وروسيا بذلك فعلياً، على سبيل المثال، في البحر، حيث نملك تدابير بالغة الوضوح بشأن اقتراب القطع البحرية والجوية من قوات الجانبين، فيما يعرف باتفاقيات الحوادث الواقعة في البحر. كما يمكن لحلف الأطلسي تقديم المساعدات اللوجيستية والإنسانية إلى اللاجئين السوريين.
والأهم من ذلك، يتعيَّن على الولايات المتحدة إبلاغ موسكو في وضوح لا يشوبه اللبس بأن تداعيات العمليات العسكرية ضد القوات التركية، سوف تشتمل على المزيد من العقوبات المفروضة على روسيا فضلاً عن تقديم الدعم العسكري الأكبر إلى تركيا، وفقاً لبنود ميثاق حلف شمال الأطلسي، وتشمل، على سبيل المثال، نشر بطاريات نظام باتريوت التي طالب بها رجب طيب إردوغان من قبل.
ومن الواضح، أنه لا بد من توافر الاستجابة الدولية على عمليات العنف العسكرية الجارية في محافظة إدلب السورية، ويتعين على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التعامل مع الأمر بما يفوق مجرد الدعوة إلى التصرف واتخاذ الإجراءات. وما تزال فكرة إقامة «المنطقة الآمنة»، قيد التفاوض بين تركيا وسوريا، مستحقة للمزيد من النظر والاعتبار، رغم أن المرحلة الراهنة تفرض حيازة فلاديمير بوتين وبشار الأسد للقدر الأكبر من الزخم في الوقت الحالي.
لكن، من غير المحتمل أن ننجح في تجنب المأساة التي يشرف عليها ثلاثة ملايين مدني سوري الآن – وأغلبهم من الأطفال والنساء – الذين يقبلون على حالة من الانسحاق الذي لا يرحم بين مطرقة استراتيجيات بوتين وسندان خطط إردوغان. ومع ذلك، فمن المنتظر أن تتفاقم الأمور بصورة غير متصورة لدى الجميع، في حالة وقوع المواجهة العسكرية المباشرة بين قوات حلف الناتو والقوات الروسية في سوريا. وفي غياب الجهود المدروسة بعناية من جانب الولايات المتحدة الأميركية ودول حلف الناتو الأعضاء، للتدخل الحذر مع حماية مصالح الحليف التركي المشاكس، فلن تكون نتائج الأيام المقبلة واضحة لأحد على الإطلاق.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»