التغيير الأساسي الذي قام به برهان قرباني بالنسبة للنسخ السابقة من «برلين ألكسندربلاتز»، وبالنسبة لرواية ألفرد دوبلين هو وضع المهاجرين إلى ألمانيا في صدارة الأحداث، وبالطبع نقل هذه الأحداث إلى زمننا المعاصر.
الفيلم هو واحد من الأعمال العديدة التي دارت حول قضايا الهجرة والمهاجرين إلى دول الغير وكيف يُواجهون أو إذا ما كان باستطاعتهم الاندماج في التشكيلة الاجتماعية الحاضرة أم لا.
همّ بطل الفيلم فرنسيس أن يصبح فرانز. في أفريقيا؛ حيث وُلد، الاسم يستخدم للذكور. في ألمانيا ضحك عليه أكثر من التقى بهم على أساس أن اسمه للإناث فقط. على أن الدافع لتغييره لا ينتمي إلى هذه الحقيقة التي تثير امتعاضه، بل أساساً إلى رغبته في أن يُولَد من جديد (بالمعنى المجازي للكلمة)، ويتحول إلى ألماني بصرف النظر عن لون بشرته. هو بذلك إما ساذج أو جاهل أو ربما الاثنان معاً.
نراه يرفع يديه ويصيح: «أنا ألمانيا»، عندما يتسلم جواز سفر ألمانياً لم يحصل عليه بالطرق الشرعية.
المشهد يضمه مع مجموعة من الأفارقة الذين ما زالوا في مطلع سنوات الهجرة. الأبيض الوحيد في المجموعة هو راينهارت، الذي مكّنه من الحصول على أوراقه الثبوتية، الذي يمثل الروح الشريرة التي تسطو على مقدّرات فرنسيس منذ البداية.
الولادة مرة أو مرات عدة يشوب تفكير فرنسيس بدءاً من مطلع الفيلم، كونه يشعر بالذنب لغرق فتاة كانت تحاول (مثله) الوصول إلى الشاطئ الأوروبي. حاول إنقاذها لكنه فشل. ومع أنه غير مذنب إلا إنه يقرر أن يصبح إنساناً مستقيماً بعدما وصل إلى موطن جديد. سنرى أنه في كل مرة ينحرف (متحولاً إلى بائع مخدرات ثم شريك مع زعيم العصبة التي بات مشرفاً عليها) يتعالى السؤال حول فشله في الولادة من جديد عوض الانحدار الذي يهبط فيه. هذا يصبح مكرراً بلا غاية من وراء تكراره، وفاقداً بالتالي للمفهوم الذي أنيط بالرغبة في البداية.
- مضمون بوجهتي نظر
ينضم هذا الفيلم إلى مزيد من الأفلام الحديثة التي تتعرض لمسائل وقضايا الهجرة إلى الشمال والغرب عموماً. أحد أحدثها فيلم «البائسون» للفرنسي لادج لي الذي عرضه مهرجان «كان» في دورته الأخيرة في العام الماضي، وفيه ثلاثة رجال بوليس فرنسيون (أحدهم أسود من جيل مولود في فرنسا) يواجهون نقمة حي من مهاجرين مختلفي الأعراق والديانات: هناك سود من أفريقيا وعرب ومسلمون والدور الذي يتعهده رئيس هذه الوحدة الصغيرة من رجال الشرطة هي ملاحقة الجميع كمذنبين لمجرد أنهم مهاجرون أو أبناء مهاجرين.
مثل «برلين ألكسندربلاتز» يقوم فيلم لي على رواية أدبية ذائعة الصيت هي تلك التي كتبها فيكتور هوغو، لكن الفيلم الفرنسي متحرر جداً عن تلك الرواية لدرجة أن العنوان هو وحده الذي يشكل الرابط بين الفيلم والرواية على نحو واضح. أما حقيقة أن الفيلم دار في المناطق ذاتها التي دارت فيها أحداث الرواية فلا تشكل إلا خامة غير ملزمة كون الأحداث ذاتها يمكن لها أن تقع في أي منطقة من مناطق باريس ذات الكثافة العرقية المختلطة، أو حتى في مدينة مرسيليا لو أراد المخرج.
هناك رابط آخر بين الفيلمين (لجانب مصدرهما الأدبي) وهو أن كليهما يمكن اعتباره وجهة اجتماعية غير مستقرة سياسياً. في «برلين ألكسندربلاتز» يمكن لنا أن ننظر إلى ما يحدث على أساس وضع المهاجرين (أفريقيين أساساً، لكن هناك عرباً لم يسند إليهم المخرج أي مشاهد حوارية) البائس واضطرارهم للجريمة تحت إغراء المادة. في «البائسون» كذلك من الممكن جداً النظر إلى البوليس (خصوصاً لشخصية قائد الفصيل ستيفان كما يؤديه داميان بونار) كعنصري متشدد.
في الوقت ذاته، يمكن لليمين استخلاص مضمون آخر مناهض. مفهوم من نوع اعتبار أن الهجرة هي مصدر المشكلات الاجتماعية والعنصرية التي تقع في أوروبا.
ففي نهاية المطاف لا يحمل فيلم برهان قرباني نقداً لعنصرية البيض (في الواقع ليس منهم من هو عنصري بمعنى الكلمة)، كما فعل ورنر فرنر فاسبيندر في «عليّ أو الخوف يأكل الروح»، ولا لجأ «البائسون» إلى ما لجأ إليه فيلم ماثيو هاين «الحقد» (1993)، عندما كال للعنصرية البيضاء متمثلة بعدد من شخصياته، وصوّر المهاجرين الجزائريين عالقين في فخ الرغبة في الانعتاق من الخوف وولوج المجتمع الجديد بسلام.
- أحمد وخديجة
في العام الذي قدّم فيه لادج لي فيلمه «البائسون» في مهرجان «كان» صاحبه في مهمة إلقاء الضوء على المهاجرين الفيلم البلجيكي «الفتى أحمد»، للأخوين جان - بيير ولوك داردين.
في إطار حكاية غير متقنة الكتابة، نجد العربي المسلم أحمد وهو واقع تحت تأثير الإمام في المسجد الذي يرى الحرام في كل شيء. أحمد، على صغر سنه، يؤمن بما يقوله الإمام ويتبنى منهجه. يقرر أن يقتل المعلمة «الكافرة»، بحسب قوله، لكن محاولته تبوء بالفشل. طبعاً هو يسمح للسلطات البلجيكية بمحاولة رأب الصدع النفسي الذي في داخله، عبر إلحاقه بمؤسسة رعاية، لكنه من المكر بحيث يوهم الجميع بأنه بات سوياً. في نهاية المطاف، يتسلل من المكان هارباً ومسلحاً وفي نيته اقتحام بيت المعلمة وقتلها.
الفيلم لم يكن أكثر من نظرة جانبية وأحادية على موضوع المسلمين والمهاجرين وبالذات على موضوع إمكانية حدوثه على هذا النحو. في أي تحليل منطقي نستطيع القيام به حيال هذا الفيلم (الرديء صنعةً أيضاً) يبرز أن هناك مسلمين وعرباً مهاجرين وصالحين ومحبوبين لا نيات عدائية لديهم.
في الواقع يتجاوز المخرج البلجيكي (أيضاً) باس ديفوس «مدار شبحي» (Ghost Tropic). بطلة الفيلم اسمها خديجة (سعدية بن طيّب)، امرأة مسلمة عربية من أصول مغربية، وتبلغ من العمر 58 سنة. إنها، بعد سنوات مديدة من الهجرة، باتت من أهل الدار (مدينة بروكسل)، تعمل خادمة تنظيف في المكاتب ليلاً، ولا بد أنها كانت منهكة، إذ يخطفها التعب فتنام وصولاً إلى محطة المترو الأخيرة في عتمة تلك الليلة. عندما تستيقظ تجد نفسها في منطقة لا تعرفها ومن دون قدرة على العودة من حيث أتت أو إلى حيث تريد أن تذهب بسبب إغلاق المحطة بابها وتوقف القطارات منها أو إليها حتى صباح اليوم التالي. هو ليل بارد وهي امرأة وحيدة في شوارع معتمة. لكنها ذات قلب شجاع وإيمان ثابت. لن يمضي وقت طويل حتى تبدأ خديجة بالتعرض لحوادث مختلفة. ليست كبيرة الحجم والفعل، لكن مضمونها وأهميتها بالنسبة إليها، وإلى المشاهدين، مهمة للغاية. هو عن جهد وبذل امرأة عربية ومسلمة عاملة، وكيف ينظر المجتمع إليها. والمخرج لم يضع هذا الغرب في سلة واحدة، بل فرّق بين شخص وآخر وتبعاً لخلفيته. كثيرة هي الأفلام التي تتناول حياة المهاجرين وقليلة تلك التي تحاول بناء جسور. وفيلم برهان قرباني (على الرغم من حسن تنفيذ فني يتحول إلى عائق فيما بعد) ليس من بين هذه القلة.