أفلام عن هشاشة الافراد وآلام وويلات الحروب والثورات في ثامن أيام «مراكش»

المغربي بنسعيدي والفرنسي بونيلو يتحدثان عن تجربتيهما في الإخراج

من تقديم فيلم «عالمنا» للكوسوفية لوانا باجرامي (الجهة المنظمة)
من تقديم فيلم «عالمنا» للكوسوفية لوانا باجرامي (الجهة المنظمة)
TT

أفلام عن هشاشة الافراد وآلام وويلات الحروب والثورات في ثامن أيام «مراكش»

من تقديم فيلم «عالمنا» للكوسوفية لوانا باجرامي (الجهة المنظمة)
من تقديم فيلم «عالمنا» للكوسوفية لوانا باجرامي (الجهة المنظمة)

بعد تكريمه في سادس أيام «مهرجان مراكش»، اعترافاً بموهبته وتأكيداً لقيمته الفنية داخل المشهد السينمائي المغربي، حلّ المخرج وكاتب السيناريو والممثل فوزي بنسعيدي، أول من أمس الجمعة، ضيفاً على فقرة «حوار مع ...»، ضمن فعاليات اليوم الثامن من هذه التظاهرة الفنية التي تواصلت على مدى 9 أيام. كما كان الموعد، في فقرة حوارية ثانية، مع المخرج وكاتب السيناريو الفرنسي برتران بونيلو، الذي تحدث عن بداياته واختياراته الفنية وقناعاته، وكيف صار مخرجاً سينمائياً.

وعلى مستوى العروض السينمائية، تميزت فعاليات هذا اليوم بدخول فيلمين جديدين سباق الفوز بجوائز المهرجان هما «الهدير الصامت» (2023) للأسكوتلندي جوني بارينكتون، و«عالمنا» (2023) للكوسوفية لوانا باجرامي؛ فيما عُرض «مايكينغ أوف» (2023) للفرنسي سيدريك كان، في فقرة «العروض الاحتفالية». و«مروكية حارة» (2023) للمغربي هشام العسري، في فقرة «بانوراما السينما المغربية»، و«غير المرغوب فيهم» (2023) للفرنسي لادج لي، في فقرة «العروض الخاصة». وفي «القارة الحادية عشرة»، كان الموعد مع «فتاة صغيرة زرقاء» (2023) للفرنسية منى عشاش، و«العروس» (2023) للرواندية ميريام بيرارا، و«بين الثورات» (2023) للروماني فلاد بيتري، و«جبل رأس جوز الهند» (2023) للكونغولي آلان كاساندا.

المخرج المغربي فوزي بنسعيدي في فقرة حوارية بالمهرجان (الجهة المنظمة)

حواران مع بنسعيدي وبونيلو

شكل اللقاء الحواري مع بنسعيدي فرصة للوقف على قناعاته واختياراته، والاقتراب أكثر من طريقة تدبيره لتجربته السينمائية، وتأكيداً للمضمون الذي تتحرك من خلاله أعماله، قال بنسعيدي إن بإمكان الأعمال السينمائية تمرير رسائل قادرة على «قلب المعايير وتغيير العالم».

وجاء ربط المخرج المغربي بين السينما وأوضاع العالم، في سياق تفاعله مع مشهد من «يا له من عالم رائع»، ظهرت فيه بطلة الفيلم، في دور شرطية مرور، وهي تؤدي مهمتها في ضبط حركة المرور على مستوى إحدى المدارات الطرقية، قبل أن تتقاطع نظراتها مع شاب، فيتبادلان الإعجاب، قبل أن ينتقل إلى «مشهد راقص» لحافلات وسيارات ودراجات نارية، حول المدارة الطرقية، فيما يشبه سمفونية تضبط الشرطية إيقاعها بدقة عجيبة.

وتطرّق بنسعيدي، في معرض مروره الحواري، إلى الكيفية التي يختار بها الفضاءات التي يصور فيها أعماله، مشيرا إلى أنه يتعامل معها كتعامله مع عملية «الكاستينغ» التي تتم على مستوى اختيار الممثلين. وأضاف أنه يزور تلك الفضاءات بمفرده، قبل بدء التصوير، وخلال أوقات متفرقة من اليوم، لأجل تحديد الوقت الملائم للتصوير. كما تحدث عن التطور والتجديد الحاصلين على مستوى أعماله، وشدّد على أن المهم بالنسبة إليه يبقى الوفاء لشغف شخصي بالسينما.

وعن أعماله، ومدى إمكانية مفاضلته بينها، قال إنه لا يميز بين عمل وآخر، مشدداً على أنه صنع كل فيلم من أفلامه بالحب والشغف والصدق نفسه. كما تحدث عن علاقة المسرح بالسينما، مشيراً إلى أن هذه الأخيرة استفادت كثيراً من الممثلين القادمين من المسرح، لكنه رأى أن السينما تبقى أقرب إلى الموسيقى والهندسة المعمارية منها إلى المسرح.

المخرج الفرنسي برتران بونيلو في فقرة حوارية بالمهرجان (الجهة المنظمة)

من جهته، تحدث بونيلو، في فقرته الحوارية، عن انتقاله من الموسيقى إلى السينما، وهو الذي بدأ رحلته الفنية منشغلاً بالموسيقى الكلاسيكية، وكان يحلم في مرحلة المراهقة بأن يصبح قائد فرقة موسيقية، قبل أن يتحول إلى موسيقى الروك والبوب. وفي منتصف العشرينات من عمره، بدأ يهتم بالسينما، من خلال مشاهدة الأفلام، وأخذ فكرة عن أفكار وقناعات المتخصصين بها من خلال قراءة حواراتهم، ليبدأ، شيئاً فشيئاً، في اكتساب صرامة فنية، مكنته من سرد القصة وكتابة الفيلم بطريقة خاصة ومميزة.

ولتوضيح أفكاره أكثر، استعرض بونيلو أمام الحضور مقتطفات من عدد من أفلامه، كما تحدث عن عناصر تكوين المشروع السينمائي، متوقفاً عند تجربته في فيلم «سان لوان»، الذي يتناول السيرة الذاتية للمصمم الفرنسي الشهير إيف سان لوران. كما تحدث عن تفاصيل التصوير ورؤيته للعملية الإبداعية.

وعُرض لبونيليو أول فيلم طويل، «شيء عضوي» (1998)، في قسم البانوراما بمهرجان «برلين»، وشارك فيلمه «المصور الإباحي» (2001) في قسم أسبوع النقاد بمهرجان «كان»، حيث فاز بجائزة الاتحاد الدّولي للنقاد السينمائيين. كما اختيرت أفلامه المتوالية في مهرجان «كان»: «تيريزيا» (2003)، و«في الحرب» (2008)، و«التسامح: ذكريات من منزل الدعارة» (2011)، و«سان لوران» (2014). وبعد ذلك، أخرج «نوكتوراما» (2016)، واختير «طفلة زومبي» في قسم «أسبوعي المخرجين» (2019)، و«الغيبوبة» (2022) في المسابقة الرسمية لمهرجان «برلين»، حيث نال جائزة الاتحاد الدّولي للنقاد السينمائيين. فيما عُرض فيلمه الأخير «الوحش» (2023)، في مسابقة «مهرجان البندقية السينمائي الدّولي».

هدير صامت وثورات

جاءت أفلام اليوم الثامن في المهرجان متنوعة، في توجهاتها الفنية والمضامين التي تلامسها، تتراوح في ذلك بين رصد هشاشة الواقع اليومي وانكسارات الأفراد في مختلف تجلياتها ومستوياتها، علاوة على استحضار مظاهر البؤس والتوتر والألم التي تعاني منها شعوب وجماعات في عدد من مناطق العالم، وتوْقها إلى مستقبل أفضل.

وتدور أحداث «الهدير الصامت» في جزيرة لويس في أسكوتلندا، من خلال شخصية دوندو، راكب الأمواج الشاب، الذي لم يتقبل واقعة رحيل والده الصياد بعد فقدانه في البحر منذ ما يزيد على السنة. بطبعه الهادئ والحالم، بدأ يقترب من ساس، زميلته في الدراسة، وهي فتاة مفعمة بالذكاء لا تتردد في استفزاز الآخرين. ستنمو بين الشابين صداقة غير متوقعة ستساعدهما في شق طريقهما في مجتمع ريفي، بين الأمواج العاتية والمعتقدات ونيران الجحيم.

أما «عالمنا»، فتدور أحداثه في كوسوفو في 2007، حين تغادر كل من زوي وفولتا قريتهما النائية من أجل الالتحاق بجامعة بريشتينا. وعشية الاستقلال، ومع تصاعد حدة التوتر السياسي والاجتماعي، تواجه الشابتان صخب بلد في بحث عن هويته، بلد ترك شبابه كل شيء خلفه.

من تقديم فيلم «مروكية حارة» (2023) للمغربي هشام العسري (الجهة المنظمة)

فيما تتمحور أحداث «مايكينغ أوف» حول سيمون، وهو مخرج فرنسي شهير، بدأ تصوير فيلم جديد عن العمال الذين يناضلون لمنع نقل مصنعهم. لا شيء يسير كما هو مخطط له. فمنتجته فيفيان ترغب في إعادة كتابة نهاية الفيلم وتهدد بخفض الميزانية، وفريقه مضرب عن العمل، وحياته الشخصية في حالة من الفوضى، ومما يزيد الطين بلّة أن الممثل الرئيسي آلان شخص غبي وأناني. يوافق جوزيف، الممثل الثانوي في الفيلم الذي يريد ولوج عالم السينما، على تصوير مرحلة تصنيع الفيلم. يأخذ جوزيف دوره الجديد على محمل الجد ويبدأ في متابعة طاقم التصوير والتقاط كل صور هذه الفوضى. ما يلي من أحداث يدل على أن «المايكينغ أوف» قد يكون في بعض الأحيان أفضل بكثير من الفيلم نفسه.

أما «مروكية حارة» (مغربية حارة) فيقدم تشخيصاً مصوراً للمجتمع من خلال امرأة مغربية ترفض الخضوع. وتدور أحداث الفيلم في مدينة الدار البيضاء المتوهجة، حيث تبدأ خديجة، الملقبة كاتي، يومها بمزاج سيئ. وفي لحظة من العزلة والصراحة، تكتشف أن الحياة لم تكن سهلة بالنسبة لها، لتدرك، عشية عيد ميلادها الثلاثين، أن عائلتها تستغلها، وخطيبها أيضاً.

في «غير المرغوب فيهم»، يتعلق الأمر بقصة هابي التي تولي اهتماماً بالغاً لكل ما يهم أمور بلديتها، فتكتشف التصميم الجديد لإعادة تهيئة الحي الذي تقطن فيه. بإيعاز من بيير فورجيس، طبيب الأطفال الشاب الذي أصبح عمدة للمدينة، يضع التصميم من بين مخططاته هدم المبنى الذي نشأت فيه هابي، فتخوض مع أقاربها نضالاً قوياً في مواجهة البلدية وطموحاتها الكبيرة لمنع هدم العمارة رقم 5.

من تقديم «فتاة صغيرة زرقاء» بحضور المخرجة منى عشاش والممثلة ماريون كوتيار (الجهة المنظمة)

أما «فتاة صغيرة زرقاء» فيحكي قصة منى عشاش، التي اكتشفت بعد وفاة والدتها، آلاف الصور والرسائل والتسجيلات، لكن هذه الأسرار الدفينة قاومت لغز اختفائها. وبقوة السينما وبفضل إمكانية التجسيد، تقرّر بعثها من جديد لتعيد إحياءها ولتستطيع فهمها.

ويعرض «العروس» قصة إيفا، وهي امرأة شابة تطمح في أن تصبح طبيبة. ستُختطف هذه الشابة، بعد مرور ثلاث سنوات على الإبادة الجماعية للتوتسي في رواندا. ووفقاً لتقاليد كوتيرورا، ينوي مختطفها الزواج بها رغماً عنها. وبعد شعورها بأن عائلتها تخلّت، ودفعت بها للخضوع والقبول بالأمر الواقع، تتقرب الشابة من ابنة عم خاطفها، لكنها، عندما تكتشف الماضي المأساوي لعائلتها الجديدة، ستصبح في حيرة من أمرها، بحيث لم تعد تعرف هل عليها الفرار أو البقاء.

وتدور أحداث «جبل رأس جوز الهند» في نيجيريا، حيث تنظم مجموعة من طلبة جامعة إيبادان، وهي أقدم جامعة في نيجيريا، كل خميس، نادياً سينمائياً يحوّل مدرجاً صغيراً إلى فضاء سياسي تُطوّر فيه وجهات النظر وتُصقل الكلمة النقدية. والفيلم هو تعبير ازدرائي يرمز للشباب السطحي الذي يفتقد القدرة على التفكير، وقد مُنح معنى جديدا بعدما تخلّص الطلبة من وصمة العار هذه التي أُلصقت بهم، ليطالبوا بحقهم في حرية الفكر.

أما «بين الثورات»، الذي أنجز بصور أرشيفية مقترنة بشريط صوتي مفعم بالألوان، فيستحضر بشكل حميمي، تتخلله لحظات حزن وفرح، نضالات الشعوب من أجل مستقبل أفضل، من خلال الصداقة المتينة التي تجمع بين امرأتين. وتدور أحداثه في رومانيا نهاية سبعينات القرن الماضي، حيث تربط بين زهرة وماريا علاقة صداقة قوية منذ فترة دراستهما في كلية الطب ببوخارست. لكن، ما إن شعرت زهرة بأن رياح التجديد بدأت تهب على بلدها إيران، حتى تركت الجامعة وعادت مسرعة إلى طهران مفعمة بتطلعات ثورية، في فترة تميزت بانعدام الاستقرار الذي يعرفه نظامان سياسيان على وشك الانهيار. لكن علاقتهما استمرت بتبادل رسائل تصفان فيها حياتهما اليومية.


مقالات ذات صلة

«الإسكندرية للفيلم القصير» يرشح الفائزين بجوائزه لمنافسات الأوسكار

يوميات الشرق أحمد مالك تحدث خلال لقائه بجمهور المهرجان عن أهمية المسرح للممثل (إدارة المهرجان)

«الإسكندرية للفيلم القصير» يرشح الفائزين بجوائزه لمنافسات الأوسكار

قال مدير مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير، محمد سعدون، إن المهرجان حصل على امتياز خلال دورته الـ11 المنعقدة راهناً، من 27 أبريل الجاري إلى 2 مايو.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الملتقى تضمن حفلات لفرق الفنون الشعبية (وزارة الثقافة المصرية)

سيناء تستعيد تراثها الشعبي في «ملتقى فنون البادية»

بحفلات رقص وغناء شعبي ومعارض للحرف اليدوية والفنون التشكيلية وندوات حفظ التراث البدوي استعاد «ملتقى سيناء لفنون البادية» تراث شبه الجزيرة المصرية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق يفتتح مهرجان السينما الأوروبية فعالياته مع فيلم «فلو» (المهرجان)

انطلاق «السينما الأوروبية» في بيروت مع 21 فيلماً روائياً

يشكِّل المهرجان السنوي فرصة للبنانيين لمشاهدة إنتاجات سينمائية أوروبية، لا توفّرها عادةً صالات العرض التجارية التي تركز على الإنتاجات الهوليوودية.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق لقطة جماعية للفائزين والمكرمين في المهرجان (الشرق الأوسط)

ختام لامع لـ«أفلام السعودية» بتتويج 7 بجوائز «النخلة الذهبية»

في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، اختطف فيلم «سلمى وقمر» للمخرجة عهد كامل، النخلة الذهبية لأفضل فيلم.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
يوميات الشرق تكريم لبلبة في مهرجان أسوان (إدارة المهرجان)

مصر: «أسوان السينمائي» يكرم لبلبة تقديراً لمشوارها الفني

يكرم مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته التاسعة، المقرر عقدها في الفترة من 2 إلى 7 مايو (أيار المقبل) في مدينة أسوان (جنوب مصر) الفنانة لبلبة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

كيف استوعب الحَرمان الشريفان في رمضان 122 مليون زائر ومعتمر؟

أرقام مليونية شهدها المسجد الحرام تُعد نتيجة عمل دؤوب واهتمام بالغ استمر عشرات السنين (واس)
أرقام مليونية شهدها المسجد الحرام تُعد نتيجة عمل دؤوب واهتمام بالغ استمر عشرات السنين (واس)
TT

كيف استوعب الحَرمان الشريفان في رمضان 122 مليون زائر ومعتمر؟

أرقام مليونية شهدها المسجد الحرام تُعد نتيجة عمل دؤوب واهتمام بالغ استمر عشرات السنين (واس)
أرقام مليونية شهدها المسجد الحرام تُعد نتيجة عمل دؤوب واهتمام بالغ استمر عشرات السنين (واس)

مع النجاح الكبير لموسم رمضان عام 2025 (1446هـ)، والقدرة على استيعاب الحَرمين الشريفين أكثر من 122 مليوناً من المعتمرين والزوار، يجدر التساؤل عن أسرار هذا التميز، وخلفيات هذا التفرد، ولا سيما أن الأرقام المليونية التي شهدها المسجد الحرام تُعد نتيجة عمل دؤوب واهتمام بالغ استمر عشرات السنين.

منذ عهد الملك عبد العزيز وحتى اليوم، استشعر قادة السعودية مسؤوليتهم الكبرى بصفتهم أمناء على مَهبط الوحي ومهد الرسالة النبوية، وجعلوا خدمة الحَرمين أولوية لكل منهم، وكان لكل ملكٍ مساهمته وبصمته التي سيُخلدها التاريخ.

لخَّص ذلك الملك سلمان بقوله: «لقب خادم الحَرمين الشريفين شرف كبير، ومسؤولية عظيمة»، وهم في ذلك يسيرون على نهج والدهم الملك عبد العزيز، الذي قال: «نحن آل سعود لسنا ملوكاً ولكننا أصحاب رسالة».

هذه الرسالة هي التي تعمّق مفهومها في نفوس ملوك السعودية، ومنحتهم دوراً خاصاً وملأت صدورهم قناعة وأهّلتهم لقيادة العالم الإسلامي.

قادة السعودية كان لكل منهم بصمته في خدمة الحَرمين الشريفين التي سيُخلدها التاريخ (واس)

مطلع القرن

فور ضم الملك عبد العزيز مكة المكرمة، في الربع الأول من القرن العشرين، وتحديداً عام 1924 (1343هـ)، جعل خدمة المسجد الحرام على رأس أولوياته، وأمر بترميم وإصلاح كل ما يقتضي إصلاحه في الحَرم، وذلك رغم شُح موارد الدولة.

بدأ بعمل الترميمات والإصلاحات اللازمة، وفي ذلك العام كان عدد الحجاج 78593 حاجاً، منهم 3593 حاجاً من الخارج.

وفي عام 1927 (1346هـ) أمر الملك بإجراء عمارة عموم المسجد الحرام داخلياً وخارجياً على نفقته الخاصة، واستمرت الأعمال عاماً كاملاً، وبلغت تكلفتها ما يقارب 2000 جنيه ذهب (7 ملايين ريال).

في عام 1935 (1354هـ) صدر أمر الملك عبد العزيز بتشكيل لجنة لعمارة وإصلاح المسجد الحرام، وعَهِد إليها إجراء الكشف المستمر على عموم ما يَلزم المسجد الحرام من عمارة وإصلاح، وحصر ما يتطلبه ذلك، وبلغت تكلفة تلك الإصلاحات نحو 12 مليون ريال.

تطوير وتحسين الحَرم لم يقتصر على الإعمار والخدمات بل اهتم كذلك بشؤون الإمامة والدروس وإدارته (واس)

استمر اهتمام الملك عبد العزيز بتطوير وتحسين كل ما يتعلق بالمسجد الحرام، إذ لم يقتصر اهتمامه على جوانب الإعمار والخدمات، بل اهتم كذلك بشؤون الإمامة والدروس وإدارة الحَرم، ومن ذلك:

  • توحيد الإمامة، إذ كانت الصلاة، ولقرونٍ خَلَت، تقام في أربعة مقامات نُصبت في صحن الحَرم حسب المذاهب (الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية)، وكل جماعة تصلي خلف إمام المذهب، فألغى هذه المقامات، ومنع تعدد الأئمة، وجمع الناس خلف إمام واحد.
  • عين هيئة علمية للإشراف على التدريس، وأصدر عدة أنظمة لتنظيم التدريس وتحسين أوضاع المدرسين، وأكد التدريس وفق المذاهب الأربعة، وبلغت حلقات التدريس 120 حلقة تُدرس فيها العلوم الدينية وعلوم اللغة والمنطق والآداب؛ بل حتى علم الفلك، وغيرها من العلوم، وبلغات مختلفة. ووصل عدد المدرسين إلى 700 مدرس متنوعي الأعراق والمذاهب، وهو بكل ذلك يعيد الدور العلمي والعالمي للمسجد الحرام كجامعة أولى في العالم الإسلامي.
  • أمر بتشكيل مجلس إدارة الحَرم للإشراف الإداري والخِدمي، وإسناد أعمال العمارة والصيانة لإدارة الأوقاف.

قطاعات عديدة جاء تأسيسها وتطورها مرتبطاً بخدمة الحج والحجيج (واس)

الجانب اللافت أن المُتابع لبناء مؤسسات الدولة في عهد الملك عبد العزيز يجد ارتباط ذلك بخدمة الحَرمين الشريفين، فقطاعات كالصحة والمواصلات والأمن والجوازات والبريد والإعلام والتجارة والاقتصاد والمياه وغيرها جاء تأسيسها وتطورها مرتبطاً بخدمة الحج والحجيج، وكأننا نرى تزامن البناء التنظيمي لمؤسسات الدولة مع ما تُقدمه الدولة السعودية لخدمة ضيوف الرحمن، وهذا من المفارقات التاريخية، التي انعكست بعد ذلك في نصوص الأنظمة والقوانين السعودية، فنصّت المادة 24 من النظام الأساسي للحكم على ما يلي: «تقوم الدولة بإعمار الحَرمين الشريفين وخدمتهما، وتوفر الأمن والرعاية لقاصديهما، بما يمكّن من أداء الحج والعمرة والزيارة بيسر وطمأنينة».

وهذا مثال فقط، وغيره كثير من النصوص التي وردت في الأنظمة السعودية تؤكد كلها أن علاقة المملكة العربية السعودية بالحَرمين الشريفين ليست في بُعدها الجغرافي أو التاريخي فحسب، بل في الارتباط الوجودي.

الأنظمة السعودية أكدت علاقة المملكة بالحَرمين في بُعدها الجغرافي والتاريخي والارتباط الوجودي (واس)

التوسعة السعودية الأولى

لمّا رأى الملك عبد العزيز ازدياد أعداد الحجاج وازدحام الحَرم، الذي لم تكن تتجاوز مساحته 33 ألف متر مربع، وطاقته القصوى نحو 50 ألف مصلٍّ، أصدر، عام 1949 (1368هـ)، بياناً بعزمه توسعة الحَرمين الشريفين، بدءاً بالمسجد النبوي، وجرى بدء توسعة المسجد النبوي في شهر يوليو (تموز) 1951(شوال عام 1370هـ)، كما بُدئ بوضع التصاميم اللازمة لتوسعة المسجد الحرام.

لقد كانت توسعة الحَرمين وبناؤهما بالشكل الذي يعكس مكانتهما والطراز الذي يمثل هويتهما ويلائم ما يتطلع إليه قاصدوهما وما يشعر به المسلمون تجاههما، إحدى الأماني الكبرى للملك المؤسِّس، فأمر بتكوين هيئة فنية وهندسية لعمل التصاميم والمخططات اللازمة لهذا المشروع الإسلامي العملاق.

وكان من أهداف التوسعة السعودية، بالإضافة إلى رفع الطاقة الاستيعابية للمَطاف وأماكن الصلاة والمسعى مع دمجه ضمن مباني المسجد الحرام، وضع الحلول الجذرية لمعالجة الأخطار التي كانت تهدد سلامة المسجد وقاصديه كالحرائق والسيول، من خلال استخدام مواد البناء غير القابلة للاشتعال، وأنظمة مكافحة الحريق، وعمل مجاري تصريف السيول، وتوفير الخدمات المتكاملة لراحة قاصديه.

تزامن البناء التنظيمي لمؤسسات الدولة مع ما تُقدمه السعودية لخدمة ضيوف الرحمن (واس)

وافت المنية الملك عبد العزيز قبل الشروع في التوسعة، فاستكملها أبناؤه، وكانت مشروعاً استراتيجياً استغرق نحو ربع قرن، كما كانت توسعة تأسيسية أشرف عليها الملوك: سعود وفيصل وخالد، وتابعها المسؤولون السعوديون على جميع المستويات، وشارك في إنجازها أكثر من 55 ألفاً من الخبراء والمهندسين والفنيين والموظفين والعمال، كما كان نقلة نوعية في تاريخ توسعة وعمارة الحَرم المكي، إذ بلغ إجمالي مساحة مباني التوسعة، إضافة إلى مساحة الميادين المحيطة، نحو 200 ألف متر مربع؛ أي ما يزيد على ستة أضعاف مساحته السابقة، تستوعب في أوقات الذروة ما يصل إلى 400 ألف مصلٍّ، بتكلفة إجمالية بلغت مليار ريال.

استكمال التوسعات

بسبب ازدياد الأعداد، رأى الملك فهد بن عبد العزيز الحاجة إلى توسعة ثانية اكتملت عام 1993 (1413هـ)، وأصبحت مساحة المسجد الحرام مع الساحات والميادين المحيطة نحو 400 ألف متر مربع، وارتفعت الطاقة الاستيعابية إلى نحو 800 ألف مصلٍّ. وبلغت تكاليف مشروع التوسعة السعودية الثانية ما يزيد على 30 مليار ريال.

أمر الملك عبد الله بن عبد العزيز ببدء توسعات جديدة للمسعى والمسجد والمَطاف (التوسعة السعودية الثالثة)، والتي استُكملت في عهد الملك سلمان. وبلغت المساحة الإجمالية للمسجد الحرام وساحاته بعد اكتمالها 750 ألف متر مربع، بإجمالي مسطحات بناء تتجاوز 1.4 مليون متر مربع، وتستوعب ما يصل إلى 2.5 مليون مصلٍّ، كما تستوعب التوسعة 105 آلاف طائف حول الكعبة، و120 ألف ساعٍ بين الصفا والمروة في الساعة الواحدة.

بلغت المساحة الإجمالية للمسجد الحرام وساحاته بعد اكتمالها 750 ألف متر مربع (واس)

أما عن التكاليف الإجمالية لهذه التوسعة، فتجاوزت المبالغ التي قُدّرت لها وكانت نحو 80 مليار دولار (300 مليار ريال)، علماً بأن هذه المبالغ تخص التكاليف المباشرة للتوسعات مع تعويضات نزع العقارات، ولا تشمل تكاليف البنى التحتية والمشروعات التطويرية الأخرى.

لقد أضافت التوسعات السعودية للمسجد الحرام الكثير، وكانت غير مسبوقة؛ ليس في مساحاتها فحسب، بل حتى في عمارتها السعودية الفريدة، وكذلك في أولياتها وخدماتها وأنظمتها المختلفة.

كل هذه التوسعات والخدمات المتفوقة على كل ما سبقها، وبكل زواياها وأبعادها، جعلتها نموذجاً متفرداً ومتميزاً عبر التاريخ، وهو ما مكَّن أكثر من 92 مليوناً قصدوا المسجد الحرام خلال شهر رمضان، وبمعدل يفوق 3 ملايين شخص يومياً، من أداء شعائرهم بكل راحة واطمئنان تحفُّهم رعاية الرحمن ثم العناية غير المسبوقة من قِبل القيادة السعودية التي نذرت نفسها لخدمة الحَرمين الشريفين وقاصديهما، مستحضرة متطلبات هذا الشرف الذي اختصها الله به، ومستشعرة مسؤولياتها في قيادة العالم الإسلامي.