سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

وباء مدينتين

حتماً إنّها مجرّد مصادفة في صدور كتاب «فلورنسا تحت الحصار» للمؤلّف جون هندرسون عن جامعة ييلّ، وبين مأساة «كورونا» التي تلفّ العالم لفّة بعد أخرى، يوماً بعد آخر. يصف هندرسون كيف امتدّ وباء الطاعون في إيطاليا خريف 1629؛ إذ حمله المرتزقة الألمان المتقدّمون في جبال بييمونتي. كلّما تقدّموا تقدّم الوباء معهم وانتشر. ودبّ الذعر في فلورنسا من اقترابه إلى المدينة، فكتبت دائرة الصحة إلى زملائها في ميلانو وفيرونا والبندقية، تستفسر الأحوال لاتخاذ الإجراءات الوقائية. وجاءها الردّ من مدينة بالما بأنّ السكّان «أصبحوا في حالة يحسدون معها الموتى». وعلمت المؤسسة أيضاً، أنّ المسؤولين في بوبونيا، منعوا أي كلام حول الطاعون خوفاً من استدعاء الموت بلفظ اسمه. وساد الاقتناع بأنّ الوباء ينتشر في الهواء الملوّث من أنفاس المرضى والمصابين، أو عبر الملابس والأخشاب. فأصدرت وكالة الصحّة أمراً بمنع التجارة، لكنّ شيئاً لم يمنع الطاعون من التقدّم. ومع حلول شهر أغسطس (آب)، راح الموت يحصد أهالي فلورنسا. وأمر مطران المدينة بقرع جميع الأجراس والتضرّع في الكنائس والساحات. وانتشرت الإشاعات مثل الوباء أيضاً. ومنها أنّ طبيباً من صقلّية هو الذي زرع الجرثومة في مياه الأجران التي توضع أمام الكنائس. وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول)، كان عدد الموتى قد جاوز الألف فأقامت الوكالة محجراً صحّياً على تلال فلورنسا. وبعد شهر كان العدد قد وصل إلى ألفين ومائة.
وفي عام 1631، صدر الأمر بالحجر على معظم السكّان ومنعهم من مغادرة بيوتهم. وفي كتاب «الطاعون في فلورنسا»، يصف جيوفاني بالدينوتشي المشهد في المدينة وكأنّه يصوّر مدينة ووهان الصينية هذه الأيّام: «كان محزناً أن ترى الشوارع والكنائس خالية تماماً من أي إنسان. وأصبح ممنوعاً على الناس أي مظهر من أشكال الصداقة. وهاجمت أمّ، أمام المحكمة ابنتيها لأنّهما خرجتا لزيارة الجيران وشهدتهما الشرطة بالجرم المشهود».
يروي المدوّنون في تلك الأيام أنّ تبادل الكلام بين الجيران والمحجور عليهم أصبح هو أيضاً يؤدّي إلى السجن. وكالعادة، أُنحي باللائمة على الفقراء في انتشار الوباء. وأصبحت ممارسة الرحمة والشفقة صعبة. فقد ذهبت امرأة لمساعدة شقيقتها المريضة في بلدة أخرى، ولمّا عادت تبيّن أنّها أصيبت هي أيضاً، فانتشر الموت في العائلة مودياً بسبع ضحايا. التواصل ممنوع بين الأهالي والجيران في ووهان اليوم.
وأدّى الوباء في القرن السابع عشر إلى ارتفاع الأسعار في أوروبا وانهيار بعض الاقتصادات والتجارات، كما يحدث في الصين اليوم. وعمّت المجاعة وصارت الناس تأكل ما يمكن أن تصل إليه من خضراوات وغيرها، وبلغ الأمر بوكالة الصحة أن حظرت ممارسة الجنس؛ لأنّ ارتفاع الحرارة في الجسم يضعفه ويعرّضه للعدوى. وكان عقاب المرأة التي تُضبط بتلك الفعلة أن توضع على حمار، ظهرها إلى الأمام، يصفّق لها المؤنّبون في الشارع. إذا توافر وجودهم هناك.