عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

المنازلة بين البيروقراطية والديمقراطية

السير همفري شخصية تلفزيونية تمثل بيروقراطية مؤسسة خدم التاج البريطاني، مقابلها في البيروقراطية الجمهورية وكيل الوزارة الدائم ومدير المصلحة ورئيس القلم؛ أي موظفون دائمون لا يتغيرون بتغير الوزير أو الحكومة.
السير همفري أصبح رمزاً في الأدبيات السياسية للبيروقراطي الذي يستطيع أن يوقف سير العمل، ويعطل دوران الحركة اليومية، سواء لبائع متجول أو على مستوى الأمة كلها، بجرة قلم.
عندما لجأ قط شارد في التسعينات إلى رقم 10 داوننغ ستريت باحثاً عن مأوى في أمسية شتاء، تبناه العاملون في مكتب رئيس الحكومة، وسموه «همفري».
شخصية السير همفري ظهرت في الحلقات التلفزيونية الكوميدية السياسية الساخرة «سمعاً وطاعة... معالي الوزير» بين 1980 و1984، ثم تغيرت إلى «نعم فخامة رئيس الحكومة» بين 1986 و1988، عندما أصبح الوزير جيم هاكر رئيساً للوزراء، بتآمر وتدبير السير همفري وصبيه الذي دربه على أسرار صنعة بيروقراطية الدولة، برنارد الذي يترقى مع الوزير سكرتيراً شخصياً له.
في النظام الديمقراطي البرلماني الوزير عادة نائب منتخب في مجلس العموم. النائب العادي يواجه تحدي موازنة قوتين أحياناً متناقضتين؛ الأولى ضغوط صاحب العمل، أي ناخب دائرته الذي يطالبه بتنفيذ وعوده الانتخابية، والقوة الثانية الحكومة التي يمثلها، وعليه التصويت على قراراتها كي تصبح قانوناً يدخل حيز التنفيذ. وأحياناً تتناقض القرارات مع مصالح أبناء الدائرة ورغباتهم، وعليه أن يشرح لهم الأسباب في «العيادة» الأسبوعية التي يلتقيهم فيها.
عندما يصبح النائب وزيراً يواجه معضلة التوفيق بين قوتين أخريين، بجانب الجهتين المذكورتين أعلاه؛ السلطة الرابعة التي تتلقف الأخبار والتسريبات، وتبحث عن أي فضيحة تلقيها في وجه الوزير؛ والأخرى السير همفري والجهاز الوظيفي. وإذا لم يتحول الوزير إلى دمية يحرك السير همفري خيوطها، سيضع الأخير في وجهه المصاعب والعقبات، حال أصر على إعطاء الديمقراطية أولوية على البيروقراطية، بتنفيذ برنامج انتخابي يقلص من نفوذ الجهاز الوظيفي وسلطاته.
لست المعلق الوحيد في وستمنستر الذي تذكر شخصية السير همفري، وحلقات «سمعاً وطاعة... معالي الوزير»، عندما احتدمت المعركة بين وزيرة الداخلية برتي باتيل والوكيل الدائم للوزارة السير فيليب رانتام.
والواقع مثل الكوميديا السياسية الساخرة، بمرارة شر البلية ما يضحك، من الانقسام الطبقي الذي يجعل البيروقراطية تمسك برقبة الديمقراطية لتسيّرها عكس الإرادة الشعبية. وفي الكوميديا، السير همفري ابن الطبقة الأرستقراطية خريج أكسفورد، يتلقى مرتباً يعادل ثلاثة أضعاف مرتب رئيس الوزراء الذي بدوره كان صحافياً من أسرة متواضعة تلقى تعليماً دون الجامعي.
في وزارة الداخلية اليوم السير فيليب رانتام، الوكيل الدائم للوزارة ابن الذوات الذي تعلم في المدارس الخاصة الباهظة المصروفات خريج كمبريدج. والوزيرة برتي باتيل ابنة مهاجر هندي فقير تعلمت في مدرسة مجانية، وعملت في العطلات مقابل جنيهات بسيطة، وتخرجت من جامعة شبه مجهولة لتواضع قدرة أبيها المادية.
تلخصت قوة وسلطان السير همفري في حلقتين؛ الأولى عندما حاول الوزير، بصفته نائباً برلمانياً يحاسب أمام الناخب ومجلس العموم، أن ينفذ البرنامج الذي وعد به الناخب، كتوفير الإهدار في الميزانية، بالتحقيق في وضع مستشفى جديد تكلف ملايين الجنيهات لكنه لم يعالج مريضاً واحداً لخلوه من الأطباء والممرضات، فكل الميزانية المخصصة للمستشفى تلتهمها رواتب الإدارة المكونة من عشرات البيروقراطيين. أراد الوزير وضع حد للمهزلة، إما باستبدال أطباء وممرضات بالعمالة الزائدة في الإدارة أو تأجير المستشفى للقطاع الخاص، وتوجيه دخل الإيجار للإنفاق على مستشفيات وزارة الصحة. الاقتراح لم يعجب السير همفري؛ كيف يجرؤ وزير من الطبقة الأقل استنارة في المجتمع على الإخلال بالتوازن الطبقي الاجتماعي، ويحاول التعدي على بيروقراطية الدولة، وهي حكر على الطبقة العليا لأجيال طويلة؟ دفع السير همفري جهازه البيروقراطي لتسريب معلومات للاتحادات المهنية النقابية بأن الوزير يريد فصلهم من عملهم. الاتحاد العام للموظفين العاملين في الخدمات الصحية أعلن إضراباً عاماً على مستوى المملكة المتحدة، ثم سرب السير همفري معلومات مضللة لدائرة من الصحافيين الموالين في صحافة صفراء بأن الإضراب هو احتجاج على خطة الوزير لإغلاق أحدث مستشفى طبي لأنه يريد تأجيره للقطاع الخاص. وبالطبع، تراجع الوزير عن تحمسه في تنفيذ البرنامج السياسي الذي وعد به الناخب، وانتصرت بيروقراطية السير همفري غير المنتخب، وغير الخاضع للمحاسبة البرلمانية، والذي لا يستطيع الوزير فصله، وظل المستشفى معطلاً.
النموذج الثاني عندما أصبح الوزير رئيساً للحكومة، وقرر السكرتير الخاص (برنارد) أن ينحاز للديمقراطية، بمساعدته لرئيس الوزراء على تنفيذ برنامجه الانتخابي، بدلاً من عرقلته. عندئذ، ينبهه السير همفري بالحقيقة الغائبة عنه: «رؤساء الحكومات يتغيرون في غمضة عين بتغير الرأي العام الذي نستطيع توجيهه، أما نحن (خدم التاج) موظفي الدولة فباقون إلى الأبد، وأنا سأكون رئيسك الدائم لسنوات طويلة بعد سقوط هذه الحكومة في الانتخابات»، فولاؤه يجب أن يكون لحماية البيروقراطية، والحفاظ على نفوذها. وزيرة الداخلية باتيل أرادت تنفيذ وعود حكومتها للناخب باستقلال القرار الأمني وحركة الأفراد والسفر عن نفوذ الاتحاد الأوروبي. مشروعها باشتراط وجود عقد عمل مسبق لمن يريد الهجرة للبلاد، أو امتلاكه مهارة مرغوبة، أو يحمل دكتوراه، لم يعجب السير فيليب - همفري. فالقرار سيضع حداً لاستغلال أصحاب الأعمال والمزارع الكبيرة للأيدي العاملة الرخيصة من أوروبا الشرقية، وسيضطرون لتوظيف أبناء البلاد، مما سيرفع من مستوى الأجور. وأصحاب هذه الأعمال المتضررين ينتمون للطبقة العليا التي يمثلها السير همفري وأمثاله في الواقع السياسي. جهاز بيروقراطية وزارة الداخلية يسرب المعلومات لصحافيين (موثوق بهم) عن سوء معاملة الوزيرة للموظفين الدائمين، ورغبتها في التخلص منهم، وأخبار أخرى مما يوصف بـ«فيك - نيوز» (أخبار زائفة).
سابقتها، آمبر رود، اضطرت للاستقالة بتهمة «تضليل البرلمان»، بعد أن زودها الجهاز البيروقراطي نفسه بمعلومات خاطئة، رداً على استفسار برلماني. أي خطأ أو تقصير في أي وزارة يتحمله الوزير المنتخب في النظام البرلماني الديمقراطي، وليس السير همفري وفريقه.
الفارق بين الواقع والكوميديا التلفزيونية أن الصحافة منقسمة. الوزيرة باتيل، وكانت من نشطاء حملة «بريكست»، لها صحافيوها الموثوق بهم، بينما الصحافة اليسارية الليبرالية الموالية للاتحاد الأوروبي وتريد إسقاط الوزيرة، فتتبع إرشادات السير فيليب - همفري الذي بدوره لم يحسم المعركة لصالحه بعد. فهو، والصحافة الموالية له، نسيا أن غالبية الرأي العام الذي انتخب حكومة بوريس جونسون يؤيد البرنامج الذي تعمل الوزيرة على تنفيذه، مما يقوي موقفها. وتستمر المعركة بين الديمقراطية والبيروقراطية.