د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

متاهة اتخاذ القرار

يواجه المسؤولون مآزق كثيرة في لحظات اتخاذ القرار، بعضهم تكشفهم تعابيرهم الفورية وبعضهم تقض مضاجعهم بصمت فكرة حمل القرار على كاهلهم. وكلما ارتفع المرء في السلم الإداري زادت فداحة تداعيات قراراته. ولذا؛ وجد علماء الإدارة أنفسهم مضطرين إلى ضرورة التعمق في طبيعة اتخاذ القرارات في محاولة لتبسيطها للناس وإخراجهم من متاهاتها.
ولأن القرار هو مفاضلة بين بدائل كثيرة، فهو يمر بمراحل مختلفة؛ أولها عقبة اعتراف المدير نفسه بوجود مشكلة، فحينما لا يعترف بوجودها أصلاً رغم نداءات العاملين أو العملاء أو المراجعين فلن يتغير شيء. وإذا أفلحت جهود من حوله في إقناعه هنا تبدأ لحظة اتخاذ القرار.
والقرارات ليست كلها معقدة أو تستدعي تدخل الإدارة العليا كما يروّج له البعض. فهناك قرارات روتينية أو مبرمجة مرتبطة باللوائح التي يتعين على المسؤول قراءتها، فضلاً عن التعاميم والقرارات ذات الصلة. وهي صورة من صور التفويض. وهناك قرارات غير روتينية تتطلب تدخلاً من جهات أعلى، خصوصاً التي يكتنفها الغموض أو نقص في المعلومات الجوهرية. وهي قرارات قد تكون جديدة وغير تقليدية.
بعض المسؤولين يظنون أن كل قرار يتخذونه يجب أن يخلو من المخاطر وعدم يقين uncertainty، ولو كان الأمر كذلك لما كانت هناك حاجة إلى من يتخذ القرار أصلاً. والمحك الذي يفرق بين من يتجاوز مأزق اتخاذ القرار من عدمه يكمن في أن الحصيف هو ما لا يتردد في اتخاذ القرار الرشيد فور اكتمال أركانه، وهي تحديد المشكلة، ودراسة البدائل بتجرد. والأهم من ذلك تذكر أن لكل قرار تداعيات، بعضها يتم التغاضي عنها إذا تم الأخذ بأسباب القرار السليم، وبعضها يتحمل تبعاتها متخذ القرار نفسه، بل ويدفع الثمن غالياً إذا لم يتأنَ في تدبر وجهات النظر القانونية والمالية والفنية.
وهناك جملة من الأمور التي ثبت علمياً أنها تفاقم الشعور بمأزق اتخاذ القرارات، وهي انحيازات وأخطاء يرتكبها متخذو القرارات ويتجاوز عددها 12 عنصراً. من ذلك مثلاً «المبالغة في الثقة بالنفس»، وهي تضخيم الصورة الإيجابية عن الذات وأداء الفرد فيفقد صاحبها بسببها آذانه الصاغية لمن يحاول أن ينبهه أو ينتقده. ويعد «الانحياز الفوري» أيضاً مشكلة عندما يميل المرء نحو المردود السريع على حساب المرود بعيد المدى.
أما المشكلة الأزلية التي لا ينتبه إليها متخذ القرار، وهي أن يغرق في التفكير العقيم، وهو اعتقاده بأن قرارات «العطار سوف تصلح ما أفسده الدهر». بعبارة أخرى، هو كما يعتقد بأن استمراريته في مشاهدة فيلم ممل لا يستحق المشاهدة أولى من الخروج من السينما ليس لسبب سوى أنه يحاول الاستفادة من قيمة التذكرة (التكلفة). تماماً كمن يشتري سهماً تعثر لسنوات طويلة وليس هناك أمل قريب في ارتفاعه فيتشبث به على أمل أن يغطي تكاليف ماضية. وهو ما يسمى خطأ التكلفة الغارقة Sunk Costs. وهذا ما يجعل مديري محافظ استثمارية يتمتعون بأرباح جيدة تصاعدية في حين تراوح محافظ أخرى في مكانها؛ لأن أصحابها لم يدركوا خطورة ارتباط قراراتهم بتلك الانحيازات التي تستحوذ على تفكيرهم.
اتخاذ القرارات علم ندرسه في الجامعات وورش العمل للقياديين وليس ضربة حظ، ولا يرتكز على الحدس وحده، فهناك آلية عمل محددة نشرح من خلالها كيف يصل المرء إلى قرارات رشيدة بدراسة محايدة وعقلانية لكل البدائل المطروحة.