خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

بحر العلوم في ذكرى مولد النبي

من المعتاد في بعض الدول الإسلامية أن يجري احتفال كبير بمناسبة ذكرى ميلاد الرسول، صلى الله عليه وسلم. وتضمن ذلك الكثير من التقاليد في توفير المأكولات وإلقاء المحاضرات والقصائد والأناشيد. وفي العراق قضت التقاليد بأن يلقي أحد كبار الشعراء قصيدة جديدة بالمناسبة. رتبوا هذا الموضوع في الثلاثينات واتفقوا مع أحد الشعراء على القيام باللازم. غير أن هذا الشاعر قد مرض قبيل الحدث ولم يعد بإمكانه أن يضطلع بهذه المسؤولية.
تحيرت الإدارة في اختيار بديل عنه. جرت مناقشات واتصالات ولكنهم لم يستطيعوا العثور على بديل مناسب غير محمد صالح بحر العلوم. وتعمقت المشكلة، فهذا شاعر معروف بميوله الشيوعية. زجته السلطات في السجن عدة مرات. ويقال إنه صدر ضده حكم بالإعدام وعفي عنه. ولا بد أنه وجد من جانبه صعوبة، شيوعي ماركسي يتكلم في مناسبة دينية! لم يجدوا بداً غير تكليفه بهذه المهمة الحساسة مع التأكيد عليه بألا يستغل هذه المناسبة في بث أفكاره الثورية. «أرجوك لا تتطرق لأي أمور سياسية. احصر نفسك في مدح جدك، وكفى» (آل بحر العلوم يذكرون أنهم من السلالة الهاشمية).
حل الموعد أخيراً ونادوا عليه إلى الميكرفون. صعد الشاعر إلى منصة الخطباء وبدأ بالإلقاء:

الأرض تهتف والسماء تردد
حيي الرسالة فالوليد محمد

الحمد لله. كلام جميل ومطلع مشرق من أروع ما يمكن لشاعر أن يقوله مطلعاً لقصيدة. واصل كلامه بالإشادة بالنبي ورسالته. ولكن هذا الشاعر، بحر العلوم، لم يتمالك من ضبط نفسه فتوغل في الموضوع الذي يهمه. راح يخاطب النبي العربي ويقول:

حاشاك أن ترضى وأنت محمد
شعب يصاد وواحد يتصيد
حاشاك أن ترضى وأنت محمد
أن تستغل جهود ألف يد يد
حاشاك أن ترضى يموت بجهده
ساع ويجني العيش من لا يجهد

وهكذا يمضي الشاعر في طرح رسالته ليندد بالوضع القائم، وقد شنفت الشرطة ورجال الأمن آذانهم ينتظرون فراغه من الإلقاء. وهو عالم بذلك، أنهى قريضه وأسرع للباب الجانبي من القاعة واختفى. يقال إنه في طريقه مضغ القصيدة بأسنانه وابتلعها. وعندما حاولت الشرطة سوقه للمحاكمة لم تجد أي نص جاهز لأعين الادعاء العام لتحاسبه عليه.