صلاح دياب
- كاتب مصري
TT

صائدو الرؤوس

أصبح قسم «الموارد البشرية» من أهم الأقسام في الشركات الناجحة كلها. تنطوي فكرة «الموارد البشرية» على مفاهيم وآليات عمل مختلفة تماماً عما عرفناه عن قسم «شؤون العاملين»، الذي ما زال مُعتمداً في كثير من قطاعات العمل في بلداننا، وهو قسم يُعنى بإجراءات التعيين، وبيانات الحضور والانصراف، ورصيد الإجازات، بينما تتعاظم مهمة قسم «الموارد البشرية»، وتتضمن مسؤوليات أهم وأخطر من ذلك بكثير، يتوقف عليها نجاح أي مؤسسة من عدمه.
دور «الموارد البشرية» يتضمن التنقيب لاختيار الأصلح لكل وظيفة، بحيث يتم البحث في كل مكان عن أفضل العناصر في التخصصات المطلوبة. فإذا كان مطلوباً من لديه قدرة على الابتكار، بات محتماً على أعضاء هذا القسم الوصول إليه. يطلقون على مسؤولي الموارد البشرية اسم «HEAD HUNTERS» أي صائدي الرؤوس، فهم يأتون بأصحاب الكفاءات المتنوعة من الشرق والغرب. رأينا ذلك عندما احتاجوا في المملكة المتحدة إلى اقتصادي بارع لشغل وظيفة رئيس البنك المركزي. فرغم كل الكوادر المتاحة لديهم، فإن صائدي الرؤوس هداهم بحثهم إلى رجل كندي الجنسية، لتولي تلك المهمة الخطيرة.
كان مارك كارني، الاقتصادي البارز الذي يحمل الجنسية الكندية، قد أظهر براعة لافتة في منصبه كمحافظ للبنك المركزي الكندي، حتى أنه مُنح لقب أحد أكثر الرجال نفوذاً في بلاده، عندما استطاع أن ينال الإعجاب عبر إدارته المميزة للقطاع البنكي، ليجعله القطاع الوحيد في دول مجموعة السبع الذي لم يحتج أبداً إلى أي حزم إنقاذ.
بسبب أداء كارني المبهر في منصبه الكندي، لم يجد مسؤولو «الموارد البشرية» البريطانيون أفضل منه لكي يتولى المنصب ذاته في بلادهم؛ وهو الأمر الذي حدث في عام 2013. ليصبح كارني أول حاكم للبنك المركزي يحمل جنسية أجنبية منذ 319 عاماً من عمر البنك.
من المعروف أن البنوك المركزية تتطلب أن يرأسها دائماً من لديه خلفية اقتصادية واسعة؛ وهو أمر يقع على عاتق أصحاب الاختيار، فعليهم أن يجدوا المرشح المناسب، بصرف النظر عن أي حساسيات.
المسؤولية أيضاً تقع على عاتق «الموارد البشرية» حيال الاستعداد بتوفير البدائل الأفضل لكل وظيفة إذا ما خلت من شاغلها. في الوقت ذاته عليها إعداد برامج لتطوير أداء الموظفين تدريباً وتثقيفاً، وتطويراً لقدراتهم المهنية لمواجهة التحديات والمتطلبات الجديدة، في أوضاع المنافسة الشرسة. أهم عناصر التدريب والدراسة تكمن في القدرة على استيعاب الأخطاء السابقة، وتجاوزها. من دون ذلك يجنح الكثيرون لتكرار الأخطاء السابقة، والسقوط في دوائر الفشل، بسبب اعتماد الآليات نفسها التي قادت لوقوع الأخطاء.
يخاطب قسم «الموارد البشرية» أكبر رأس في كل كيان مباشرة، ويناقش الخطط الاستراتيجية، ويدلي بآرائه في كيفية توفير العناصر البشرية القادرة على الوفاء بمتطلباتها.
ماذا هنا عن الدول؟ ألا يعتبر رئيس الدولة في هذه الحالة الرئيس التنفيذي لأكبر شركة استثمارية في بلاده. ممثلة في الدولة ذاتها. شركة تؤول إليها الضرائب، من كل مستثمر، في نوع من المشاركة التي تحظى خلالها الدولة بالربح من دون عواقب الخسارة.
شركة تمتلك الأراضي. تمتلك الثروات الطبيعية تحت كل أرض في البلاد. يعود رئيس الشركة بالنتائج إلى جمعيته العمومية. وهي جموع أفراد شعبه. العائد سيظهر في ارتفاع مستوى معيشة مواطنيه.
يبقي السؤال الخطير هنا: ما الجهات التي تتولى عمل «الموارد البشرية» لدى الرئيس التنفيذي للشركة العظمى في أي بلد، فتعينه على إيجاد العناصر المطلوبة والصالحة لتولي المسؤوليات الكبيرة، بدءاً من المناصب الوزارية، مروراً بالمحافظين، ورؤساء المدن، ثم الهيئات العامة والقومية؟
هل هذه الجهات لديها الخبرة والكفاءة والحياد المطلوب للقيام بهذا الدور؟
كثير من الدول تستعين بشركات عالمية لإعادة هيكلة نظمها، بعد ذلك نرى النتائج على الأرض، في شكل عصري، يظهر في أساليب التعامل مع المواطن، وتحقيق الأهداف القومية، رغم ما تواجهه هذه السياسات من انتقادات نتيجة لبعض الحساسيات العائدة لأفكار مستقرة لا تثق فيما يأتي من الغرب وشركاته ذات الطابع العالمي.
مرة أخرى، إذا أردنا اقتحام علوم «الموارد البشرية»، علينا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولا نحاول أن نخترع العجلة من جديد.
تظل وظيفة «الموارد البشرية» هي الأساس الذي يبنى عليه اختيار القيادات والكفاءات القادرة على التطوير.
هناك قصة طريفة تستحق أن تروى في هذا الصدد، فأثناء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، كان هناك رجل محل شك الاستخبارات السوفياتية (KGB)؛ إذ تقلد الرجل العديد من المناصب التي وضعته في مراكز صنع القرار. بدأت الاستخبارات السوفياتية تترقبه وتتبع تحركاته ومكالماته، غير أن الحيل أعيتها، فلم يتم ضبطه متلبساً بأي خطأ، إلى أن انهار الاتحاد السوفياتي، وهاجر الرجل إلى أميركا واستقر هناك. سألوه: أنت كنت متهماً بمساعدة الغرب وأميركا بالدرجة الأولى... ماذا كنت تفعل؟
قال: «كلما عُرض عليَّ مجموعة مرشحين لأي وظيفة قيادية، كنت أختار الأسوأ فيهم، فلا شيء من الممكن أن يؤدي إلى انهيار أي دولة إلا سوء اختيار أصحاب المناصب القيادية والحيوية».
كل ما سبق يؤكد خطورة «الموارد البشرية» في تركيبة أي شركة ناجحة، والأمر نفسه ينطبق على أي بلد ناجح.