لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

أبعاد ترسيم المغرب لحدوده البحرية... وحتمية الحوار مع إسبانيا

صوّتت الغرفتان السفلى والعليا للبرلمان المغربي يومي 22 يناير (كانون الثاني) الماضي و4 فبراير (شباط) الجاري، بالإجماع على مشروعي قانونين يتم بموجبهما ترسيم حدود المياه الإقليمية للمغرب (على بُعد 12 ميلاً بحرياً) والمنطقة البحرية المتاخِمة (24 ميلاً بحرياً) وإنشاء منطقة اقتصادية خالصة على بُعد 200 ميل بحري، وذلك طبقاً لأحكام «اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار» الموقّعة بمونتيغو باي (جامايكا) يوم 10 ديسمبر (كانون الأول) 1982. مشروع القانون الخاص بالمنطقة الاقتصادية الخالصة يتضمن كذلك مادة خاصة بنيّة المغرب التمتع بالحقوق السيادية والحصرية على الجرف القاري، وذلك في حدود 350 ميلاً بحرياً، وهو ما يعني نيته رفع طلب مُعلَّلٍ لـ«لجنة حدود الجرف القاري» التابعة للأمم المتحدة لذلكم الغرض.
أجمعت الطبقة السياسية والرأي العام بالمغرب على أن القرارين يكتسبان صبغة استراتيجية وطنية لأنهما يكرسان سيادة المغرب على البحار المتاخمة. مقابل ذلك، ارتفعت أصوات معارضة على مستوى إسبانيا (خصوصاً من رئيس الحكومة المحلية بجزر الكناري، أنخيل فكتور طوريس، وقادة سياسيين من أحزاب الأغلبية والمعارضة على مستوى مدريد) لتندد بالقرار لأنها ترى فيه محاولة لفرض سيادة المغرب على مجالات حيوية قريبة من جزر الكناري التابعة لإسبانيا. بعض الردود الصحافية (إلموندو، «المغرب وإسبانيا يتصارعان حول الحدود البحرية»، 24 يناير 2020) ذهبت إلى حد اتهام المغرب بفرض واقع جديد حول الصحراء والتي ما زالت «تُعد منطقة معنية بمسلسل تصفية الاستعمار».
التحليلات الصحافية من الجانبين المغربي والإسباني تحدثت كذلك عن أن السبب الحقيقي لـ«النزاع» هو من سيتمكن من استغلال البركان الموجود على عمق ألف متر تحت سطح البحر، والمسمى «طروبيك»، والذي يبلغ عمره نحو 119 مليون سنة، ويوجد جنوب جزر الكناري (على بُعد 269 ميلاً) وغرب مدينة الداخلة (على بُعد 290 ميلاً) (انظر H24 «بركان الطروبيك، سبب النزاع بين المغرب وإسبانيا» 26 يناير 2020). توجد كميات هائلة من التليريوم والكوبالت (الصالحة في صناعة السيارات الكهربائية واللوائح الشمسية) في رحم جبل الطروبيك (إلموندو، نفس المقال) الموجود خارج المنطقة الخالصة (200 ميل) لكل من إسبانيا والمغرب. ولكن الجبل البركاني يوجد داخل حدود الجرف القاري المفترض لكل منهما إنْ نال أحدهما موافقة اللجنة الأممية المكلفة النظر في الموضوع، أو حكماً إيجابياً من طرف محكمة العدل الدولية بلاهاي في حال اتخاذ أحدهما قراراً يقضي برفع القضية أمام الهيئة القضائية الدولية.
بعد زيارتها الخاطفة للمغرب يوم الجمعة 24 يناير أعلنت وزيرة الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون الإسبانية أرانشا غونزاليز لايا، أن للمغرب الحق في ترسيم حدوده البحرية شريطة احترام الفضاء البحري الإسباني، واحترام مقتضيات الاتفاقية الدولية حول البحار والتي وافق عليها الطرفان. وهذه طريقة دبلوماسية للقول بأن أهداف إسبانيا والمغرب متنافرة خصوصاً ما يتعلق منها بالمجال البحري المتاخم لجزر الكناري.
صلب المشكل هو أن إسبانيا تتشبث بترسيم للحدود حسب تحديد وسطي بين خط الأساس الذي يُقاس منه عرض البحر الإقليمي لكلتا الدولتين حسب المادة 15 من الاتفاقية الدولية حول قانون البحار لعام 1982، ولكن نفس المادة تقول بأن هذه المقتضيات لا تنطبق حين يكون هناك «سند تاريخي» أو «ظروف خاصة»، وهو ما سيدفع به المغرب سواء خلال المفاوضات أو أمام «لجنة حدود الجرف القاري» أو أمام محكمة العدل الدولية.
اتفاقية جنيف لعام 1958 حول قانون البحار كانت تقول بوجوب ترسيم الحدود بناءً على التحديد الوسطي، أي بناءً على مبدأ المساواة. ولكنّ هذه المقاربة سرعان ما أبانت عن محدوديتها وبدت مجحفة في حق كثير من البلدان الساحلية. لهذا تم اعتماد مبدأ الإنصاف والذي تمخضت عنه اتفاقية 1982، أي إن مبدأ الإنصاف يأخذ بعين الاعتبار أهمية الديمغرافيا والبعد القاري والبعد الأرخبيلي (في حال وجود دولة أرخبيلية) والبعد التاريخي وأبعاد أخرى يمكن أن تستعملها الدول لحماية مصالحها دون ضرر لهذا الطرف أو ذاك.
والإنصاف هو مبدأ اعتمدته محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2007 في النزاع بين الهندوراس ونيكاراغوا حول ترسيم الحدود البحرية على بحر الكاريبي، والحكم الخاص بالنزاع بين البحرين وقطر حول جزر الحوار، وترسيم الحدود البحرية بين البلدين، صدر في 16 مارس (آذار) 2001، والعديد من حالات النزاع الأخرى في البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط وغيرها.
كانت إسبانيا قد وضعت «طلباً لدى (لجنة حدود الجرف القاري) لتوسيع جرفها القاري غرب جزر الكناري في 2014، وهو الطلب الذي لم تدرسه بعد اللجنة المتخصصة»، نظراً لأن المغرب وضع بشأنه «تحفظات عديدة» وسجل في 2017 طلباً يعبّر عن رغبته في توسيع جرفه القاري كذلك (إلموندو، نفس العدد). ما دام أن جزر الكناري هي إقليم إسباني وليست دولة أرخبيلية فإن مقتضيات الاتفاقية الدولية حول قانون البحار، خصوصاً المواد من 46 إلى 54، المتعلقة بالدول الأرخبيلية لا تنطبق عليها. لذا فالبعد القاري والديمغرافي والتاريخي للمطالب المغربية سيكون له وزنه في المفاوضات أو إبان الترافع أمام اللجنة الخاصة أو محكمة العدل الدولية.
كون سيادة المغرب على الصحراء الغربية ما زالت غير معترف بها على المستوى الدولي قد تكون عقبة أمام الملف المغربي، ولكنها عقبة ممكن في نظري التغلب عليها. أولاً، كانت محكمة العدل الدولية، قد أصدرت حكماً استشارياً في 16 أكتوبر 1975 تقول فيه بأن علاقات قانونية مبنية على البيعة كانت موجودة بين أهل الصحراء وملوك المغرب. ثانياً، الاتفاقيات الثنائية بين المملكة والقوى الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حول سلامة الملاحة التجارية في المحيط الأطلسي كانت تشير بالواضح إلى سيادة المغرب على الصحراء الغربية. ثالثاً، الرأي الاستشاري لنائب الأمين العام المكلف الشؤون القانونية هانس كوريل، في 29 يناير 2001 كان قد قال بأن استغلال ثروات الصحراء من طرف المغرب كقوة تدير شؤون الإقليم هي ليست غير قانونية، إذا كان السكان المحليون يستفيدون منها. رابعاً، لقد أظهر المغرب في أكثر من فرصة التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي تعرفه محافظاته الصحراوية وهو ما شكَّل أساساً لعقد اتفاقيات في مجال الصيد البحري والفلاحة مع الاتحاد الأوروبي لا تستثني الصحراء من التبادل التجاري. كل هذا يشكل ترسانة قانونية وتاريخية مهمة لتعزيز الملف المغربي حول الحدود البحرية.
من وجهة نظري كذلك، أظن أنه من مصلحة المغرب وإسبانيا أن يسلكا طريق المفاوضات من أجل التغلب على تعقيدات ترسيم الحدود البحرية المتداخلة. حسن الجوار والمصير المشترك وتداخل المصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية يفرض عليهما العمل على إيجاد حلول ذكية لتضارب الأهداف وتداخلها. ولكن هذا يتطلب شجاعة سياسية حقيقية من الجانبين وبُعد نظر، وكذا رغبة في وضع تصور شامل حول المصير المشترك داخل فضاء بحري مشترك يمكن تحويله إلى مصدر مستديم للثروة، وخزاناً استراتيجياً قد تستفيد منه الأجيال القادمة في البلدين الجارين المحكوم عليهما بالتعايش والتعاون وتحقيق السلم والاستقرار والازدهار.