جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

بريطانيا ومحنة الإرهاب

حادثتان مروعتان شهدتهما العاصمة البريطانية مؤخراً، تفصلهما فترة زمنية قصيرة؛ الأولى كانت في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، وراح ضحيتها شخصان وجرح آخرون؛ والثانية كانت يوم الأحد المنقضي، وأدت إلى إصابة 3 أشخاص بجروح، أحدهم في حالة خطرة. ما يلفت الانتباه في الحالتين أن مرتكبيهما شابان من دعاة التطرف الإسلامي كانا قد غادرا السجن بعد انقضاء نصف فترة العقوبة المقررة لسجنهما.
عقب الحادثة الأولى، في منطقة لندن بريدج، هاجت الدنيا وماجت، وارتفعت الأصوات منددة ومطالبة بضرورة إعادة النظر في مسألة الإفراج عن سجناء مدانين بارتكاب أعمال إرهابية قبل انتهاء المدة المقررة للسجن. وبعدها بأيام قليلة، خمدت منطفئة تلك الأصوات، وواصلت عجلات الدنيا دورانها، مخلفة أسى وحزناً في قلوب أهالي الضحايا، وأسئلة كثيرة في حاجة ملحة إلى إجابات، تتعلق بجدوى مشروع إعادة تأهيل المتطرفين في سجون يسيطر عليها متطرفون تفننوا في تجنيد المساجين العاديين إلى عقائدهم المتطرفة، وتطبيق عقوبات الشريعة الإسلامية على المخالفين، مستخدمين وسائل الترغيب والترهيب.
في عطلة الأسبوع الماضي، تكرر السيناريو نفسه: شاب في العشرين من عمره، مدان قضائياً بتهمة توزيع مواد ومناشير تدعو للتطرف والإرهاب، ومحكوم بالسجن لمدة 3 سنوات ونصف السنة، يغادر السجن بعد انقضاء نصف المدة المقررة. وبعد حوالي أسبوع من إطلاق سراحه، يسرق خنجراً في أحد المتاجر، ويهاجم المارة في الشارع، ويتسبب في جرح 3 أشخاص، قبل أن ترديه رصاصات الشرطة، مضرجاً في دمائه، ملقياً على قفاه، على أرضية رصيف بارد.
المتطرفان الاثنان ارتديا حزامين ناسفين زائفين، بغرض تعريض نفسيهما للقتل من قبل رجال الشرطة، و«نيل الشهادة»!
هذه المرّة، بلغت القلوب الحناجر من شدة ما أصابها من رعب وهول. وبدأت الأسئلة تتطاير كشرر من كل الاتجاهات، بحثاً عن إجابات لكيف ولماذا يحدث ذلك، ويتكرر في فترة زمنية قصيرة. ولم يكن ممكناً لمسؤولي الحكومة تجاهل الأمر. وكان على رئيسها بوريس جونسون الإسراع بالإدلاء بتصريح لوسائل الإعلام لتهدئة المواطنين وطمأنتهم، وليؤكد التعامل مع قضية المتطرفين المسجونين وإطلاق سراحهم مستقبلاً بجدية، لمنع تكرار حدوث ما حدث.
في دولة ليبرالية، مثل بريطانيا، بنظام قضائي مشهود له باستقلاليته، فإن أيادي السلطة التنفيذية ليست طليقة حين يتعلق الأمر بالمساس بالحرّيات. كما أن هامش المناورة أمامها محدود جداً، وخاضع لمراقبة ورصد المنظمات الأهلية المتعددة المتخصصة في مجال حماية حقوق الإنسان. لذلك، تضع الحكومات في حسبانها كل تلك الأمور قبل أن تبدأ أولى خطواتها لإحداث تغييرات فيما ساد من تقاليد وأعراف وقوانين ذات صلة بالحرّيات.
وعدتْ الحكومة الحالية بإعادة النظر في مسألة الإفراج عن متطرفين مسجونين قبل نهاية المدة المقررة، وذلك بالتعجيل بإصدار قانون قبل بدء عطلة البرلمان في منتصف الشهر الحالي، يهدف إلى إلغاء الإفراج آلياً عنهم لدى قضائهم نصف المدة، وأن يتم الإفراج مستقبلاً عبر هيئات عفو تضم أشخاصاً متخصصين، يكون من ضمن مهامها إعداد تقييم كامل عن المتطرفين المسجونين الذين ينصُّ القانون على حقهم في الإفراج، وإصدار توصيات بالمخاطر المحتملة. الأمر الآخر هو أن بقية المتطرفين المسجونين الذين ينتظرون دورهم في الإفراج المبكر سيبقون في السجون إلى حين انتهاء فترة أحكامهم.
التعامل مع المتطرفين المقبوض عليهم، والمشتبه بتنفيذهم أعمالاً إرهابية، أو أنهم على صلة بمنظمات محظورة قانوناً، سبب كثيراً من الارتباك للحكومات البريطانية المتعاقبة منذ فترة السبعينات من القرن الماضي، وانبثاق الأعمال الإرهابية من قبل الجيش الجمهوري الآيرلندي، وما صدر من قرارات وتنظيمات وإجراءات عنها حرصت على عدم المساس بالحقوق والحريات المضمونة، قانونياً ودستورياً، للأفراد.
حين وصل المحافظون إلى السلطة في عام 2010، مكونين حكومة ائتلاف مع حزب الأحرار الديمقراطيين، وجد رئيس الحكومة حينها ديفيد كاميرون مشروع قانون أعدته حكومة العمال السابقة له، يهدف إلى وضع المتطرفين في السجون لفترة غير محدودة، إلا أنه صرف النظر عن الموضوع بعد أن تبين له أن المشروع يواجه معارضة شديدة من رجال القضاء لانتهاكه حقوق الإنسان، حسب قولهم.
بين مطرقة حماية مواطنين أبرياء من أخطار الإرهاب، والدفاع عن حقوقهم في ممارسة حيواتهم باعتيادية، وسندان حرمان متطرفين وإرهابيين من حقوق منحها لهم القانون، تقع الحكومة البريطانية في مأزق إنساني وقانوني - دستوري. وهو موقف يشبه، إلى حد ما، وضع قائد عسكري وجد نفسه محصوراً بين عدو أمامه وبحر من خلفه، ولا نجاة له إلا بخوض المعركة والفوز!
الفوز لا يأتي من دون تضحيات. وعلى أي جهة تميل كفة الحكومة، سيتعالى صراخ ورفع دعوات أمام القضاء، وسيحّتدُ جدل قانوني وحقوقي ودستوري. وفي آخر الأمر، ستتمكن الحكومة من تمرير عدة قرارات، وفرض إجراءات تتسم بشيء من الشدة، لكنها في آخر الأمر، وبعد كل ذلك، ستجد نفسها ملزمة قانوناً بالإفراج عن أشخاص تعرف مسبقاً أنهم لن يتورعوا عن سفك دماء وقتل أناس أبرياء لدى أول فرصة تتاح أمامهم.