زلزال سياسي في ألمانيا بسبب اليمين المتطرف

صنعت ألمانيا تاريخاً جديداً في مرحلة ما بعد الحرب في 5 فبراير (شباط) الحالي، ففي صدمة شديدة، انتخب أحد برلمانات الولايات، البالغ عددهم 16 برلماناً، رئيساً جديداً للوزراء بأصوات، شملت أعضاء في الحزب الشعبوي اليميني المتطرف «البديل من أجل ألمانيا»، والأسوأ من ذلك أن أحد قادة هذا الحزب في تلك الولاية، بويرن هويكي، هو أحد أعضاء الجناح المتطرف، بل الفاشي، في الحزب، فهل ألمانيا تتبنى اليوم المسار الذي تبنته النمسا قبل عقود؟ وهل سيتم تطبيع وضع اليمين المتطرف في البلاد بعد 75 عاماً من انتحار أدولف هتلر في مخبئه؟
فالمفاجأة التي حدثت في ولاية تورينغن، الأربعاء الماضي، هي بمثابة زلزال سياسي سوف يتردد صداه في جميع أنحاء ألمانيا، وربما في أوروبا كلها، لكنها لا تمثل بالضرورة تحولاً متسارعاً نحو اليمين، كما أنها بالتأكيد ليست بداية للانحدار نحو القومية الشعبوية بالشكل الذي أصبح رائجاً في المجر وبولندا اليوم، فصحيح أن ما حدث في برلمان تورينغن يعد أمراً مثيراً للقلق، لكنه تم بشكل دستوري وعلني، وربما يكون غير ضار على الإطلاق.
وعادة ما يتم النظر إلى ولاية تورينغن باعتبارها ولاية هامشية في السياسة الألمانية، فهي تقع فيما كان يُعتبر ألمانيا الشرقية، وهي مثال على التوجه السياسي لتلك المنطقة منذ إعادة التوحيد في 1990. وأقوى حزبين في برلمانها هما حزب اليسار، المتحدر من حزب الوحدة الاشتراكي الذي كان يحكم ألمانيا الشرقية سابقاً، وحزب البديل من أجل ألمانيا، لكن الأحزاب الوسطية التي حكمت ألمانيا الغربية بعد 1949، ثم عملت على توحيد البلاد فيما بعد، تعد ضعيفة في تورينغن.
وكان من المتوقع، على نطاق واسع، أنه ستتم إعادة انتخاب رئيس الوزراء السابق لتورينغن، بودو راميلو، فهو ينتمي إلى حزب اليسار، الذي يعتبره الديمقراطيون المسيحيون وغيرهم من المحافظين، حزباً مخزياً، وذلك بسبب ارتباط ذلك الحزب بالديكتاتوريين الشيوعيين السابقين، لكن راميلو شخص براغماتي ويحظى بشعبية كبيرة على المستوى الشخصي، وصحيح أنه لم يستطع الحصول على الأغلبية في البرلمان من خلال الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر من يسار الوسط، لكنه كان من المفترض أن يدعمه عدد كافٍ من الوسطيين الآخرين. إلا أنهم لم يحصلوا على فرصة، فبعد سلسلة من المناورات المفاجئة حصل مرشح من الحزب الديمقراطي الحر، المؤيد لقطاع الأعمال، وهو أصغر حزب في البرلمان، على أغلبية الأصوات، وتم انتخابه رئيساً للوزراء في الجولة الثالثة من التصويت؛ حيث فاز توماس كيمريش بأغلبية 45 صوتاً، مقابل 44 صوتاً لراميلو، ما يعني أنه من المؤكد أنه قد حصل على دعم كبير، ليس فقط من حزبه ومن حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الديمقراطيين المسيحيين، بل أيضاً من حزب «البديل من أجل ألمانيا».
ومن المفترض أن يحتفل «البديل من أجل ألمانيا» بهذا الانقلاب الذي أحدثه؛ حيث كانت رسالته إلى الأمة هي «لا يمكنكم تجاهلنا بعد الآن»، وكما كان متوقعاً، فقد اعتبرت جميع الأحزاب البارزة الأخرى أن ما حدث كان غير صحيح؛ حيث اتهمت أحزاب اليسار والاشتراكيين الديمقراطيون والخضر، كيمريش وزمرته في تورينغن بخرق «المحرمات» في مرحلة ما بعد الحرب، وبتأجيج صراع سياسي متعمد، وهو ما رآه أيضاً قادة الحزب المسيحي الديمقراطي، بما في ذلك رئيسة الحزب والمرشحة المفترضة لخلافة ميركل مستشارةً لألمانيا، أنغريت كرامب كارينباور؛ حيث قامت الأخيرة بتوبيخ فرع حزبها في تورينغن، واتهمته بـ«اللعب بالنار».
وبالنظر لهذه الاستجابات كافة فإن هذا يعني أن كيمريش والديمقراطيين الأحرار لن يحتفلوا طويلاً، فهم ليست لديهم أغلبية مستقرة، وذلك لأنهم لا يتفقون مع حزب «البديل من أجل ألمانيا» على أي شيء، كما أنهم تعهدوا بالفعل بأنهم لن يتفاوضوا مطلقاً مع اليمينيين المتطرفين، وفي حال استمر كيمريش في مساره، فستكون حكومته دائماً قريبة من الحصول على حجب الثقة.
وبشكل أو بآخر، فإن النتيجة المحتملة لهذه الأزمة هي أن تورينغن سوف تضطر إلى الدعوة إلى انتخابات جديدة قريباً، لكن هذه المرة سيكون الناخبون في الولاية قد تفهموا الأوضاع وأدركوا ما هو على المحك.
وتشبه السياسة في تورينغن السياسة الموجودة في ألمانيا، بل في أوروبا كلها في أنها قد أصبحت أكثر انقساماً وعدم استقرار، لكن هذا لا يجعل الانجراف نحو اليمين أمراً حتمياً، وذلك لأن الديمقراطية الحديثة في ألمانيا ناضجة بما يكفي لتجاوز هذه العاصفة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»