سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الغضب الأزرق

«إذا عطست الصين أصيب العالم بالزكام»، فما بالك حين يبتلى الصينيون بـفيروس على شاكلة «كورونا»، وتتوقف القطارات، وتشل المدن، ويصبح سدس سكان الكوكب تحت تهديد المرض الفتَّاك، وفي عزلة لا تريد طائرة أن تقلهم، أو بلد أن يستقبلهم. ذاك أمر جلل؛ خصوصاً أننا نتحدث عن أكبر مصنع في الدنيا، وثاني اقتصاد في زمننا، وأهم مستهلك للمواد الخام، وأغزر منبع لتصدير السياح.
شركة «أبل» وحدها تبيع في الصين بعائد مليار دولار في اليوم، أي 40 مليون دولار كل ساعة. هذا غير ما تصنعه من قطع لأجهزتها هناك بالمليارات. لك أن تفكر في كم يبيع متجر «علي بابا» الإلكتروني العملاق في هذه الحالة، وقد حجر عليه لأنه بات في منطقة موبوءة. الجميع لا بد سيتأثر. فالصين قارة وليست مجرد بلد وازن. ثلث الملبوسات في الأسواق الفرنسية، بلد الأناقة، يأتي من الصين، وتأخيره يعني خلو المحال وخللاً في البيع. يتنفس التجار الصعداء لأن المجموعة الصيفية شحنت باكراً. لكن الأغرب أن تعرف أن كبار مصممي الأزياء في العالم مرتهنون بشكل أكبر للمصانع الصينية ومنتوجاتها على تنوعها. كل يبكي حصته من الصين؛ إندونيسيا تشتكي كساد المطاط المكدس لديها، وتشيلي تريد الخلاص لتعاود تصدير النحاس إلى الوجهة التي لم يعد لها من بديل عنها، والبترول يريد أن يتعافى بعد أن توقفت حركة الصينيين الهادرة في البر والجو.
الصين ترتجف والآخرون لا بد من أن تهتز أطرافهم، وربما أكثر. يعتب الصينيون لأن الحجر عليهم مبالغ فيه. وبدل مواجهة الوباء بالعلم والتعقل يتعامل الآخرون معهم بالخوف والنفور والنبذ الذي وصل إلى حد العنصرية البغيضة. لعلهم محقون. المرض سريع الانتشار؛ لكن ضحاياه قلة، ولا يتعدون الثلاثة في المائة، وغالبيتهم من كبار السن وذوي المناعات الضعيفة. تستغرب المتحدثة باسم وزارة الخارجية هناك من ردود فعل مبالغ فيها. فما حصده «كورونا» لا يزال إلى اليوم أقل مما أودت به الإنفلونزا الموسمية في أميركا. تنسى المتحدثة أن ثمة دولاً لا حيلة لها في رد غائلة الأوبئة ولا كفاءة. الصين المذهلة في تعاملها مع «الفيروس» الشرس، حين تمنع الخروج من المنازل، يلتزم المليار بشري التعليمات، وعندما تفرض الكمامة لا يتمنَّع أحد. في المصانع التي تواصل عملها لإنتاج الثياب الواقية، يعمل الآلاف طوال النهار دون أن يخالفوا الأوامر المعطاة لهم.
ارتجت الأسهم وتثاءبت الأسواق، ضخت الحكومة الصينية، دون أن يرف لها جفن، أكثر من مائة وستين مليار دولار، لإنعاش الحركة، ولا يستطيع لبنان أن يضخ ملياراً، أو أن يشخِّص فيروساً، أو يحلل مصادره في مختبراته، والظرف الحالي على ما هو عليه.
ثمة ذعر، وهو ما تراه الصين أخطر وأشد إيلاماً من الفيروس نفسه الذي تقاتله. فتلك البلاد الشاسعة التي جابهت أنواع المحن والأوبئة، فانكسرت حيناً وانتصرت أحياناً، عرفت من القرون الوسطى «الطاعون» الذي أفنى مدناً وأباد ملايين. وحديثاً، ليس من وباء إلا وكان للصين منه حصة، من إنفلونزا الطيور، إلى «إتش1 إن1»، و«سارس»، ومع ذلك كافحت بشجاعة.
هذه المرة تبدو الصين أقوى بنية وأمضى عزيمة. هي فرصتها لتقول للعالم إنها أمتن مما يعتقد، لا سيما للشامتين والمتربصين بها تجارياً.
ولا يبدو أن المصنِّعين على مختلف جنسياتهم، ممن يستثمرون في الصين أو يستوردون منها، يتخوفون من كبير نتائج. فالتوقعات أن الصين لن تجثو، وأن التعويض آتٍ لا محالة. لا بل بعد الكبوة حيوية ينتظر أن تكون واعدة.
رغم القلق والخوف، اشترى الصينيون القابعون في منازلهم، وقد داهمتهم الكارثة في «عيد الربيع»، وخلال أسبوع واحد فقط، بالبطاقات الائتمانية، مليار مرة، وسددوا مائة مليار دولار. تابع الصينيون تسوقهم وهم في عزلتهم، مع أن أحد المراسلين الأجانب وصف ووهان التي كانت الأكثر ابتلاء، بأن لها مشهداً لشدة ما هي مقفرة يشبه نهاية العالم؛ لكن الصين نشرت للمدينة صورة تظهر تحفها المعمارية مضاءة وهي بأبهى حلة، في واحدة من ليالي الوباء، لتقول إن الحياة مستمرة رغم الألم. شيء يذكر برواية ألبير كامو المؤثرة «الطاعون» التي مهدت له الطريق إلى جائزة «نوبل» للآداب. وفيها يصف كفاح أبطاله في مدينة وهران الجزائرية في أربعينات القرن الماضي، وقد فتك بهم المرض، وبقي سكانها في الحجر سنة كاملة، لا معين لهم من الخارج الذي أغلق أبوابه عليهم وتركهم لمصيرهم، ولا خلاص لهم إلا بتعاضد بينهم ينتشل من يتبقى منهم على قيد الحياة. وهي اللحظة التي اكتشف فيها الأهالي فولاذية عزائمهم، وقدرتهم على التصدي لأبشع ما يمكن أن تتعرض له مجموعة بشرية من تهديد.
في الصين يتحدثون اليوم - رغم التفاؤل باقتراب انقشاع الغمة - عن «حرب» وعن «معركة» و«انتصار» محتم، وعن حركة تضامنية بين الأهالي لا تهدأ، وعن الدول الصديقة التي ظهرت أخلاقياتها وقت الضيق، وتلك التي انقشعت بشاعتها.
التحدي كبير، ومجابهة الكارثة بالبسالة التي نرى، له جذوره في المعتقدات الصينية، وذهنية اختبرت الأوبئة والكوارث الطبيعية، والتي يُنظر إليها على أنها إنذار بحتمية إصلاح المسار. لحظات المحن الكبرى هذه، كانت تاريخياً تشكل في الصين منعطفات ومفاصل، تتغير عندها العهود. فهم يؤمنون بأن هذا «الغضب الأزرق» لم ينزل عليهم من فراغ.
معركة الرئيس الصيني شي جينبينغ، هي أكبر من مواجهة مرض فيروسي شرِه، هي أيضاً ضرورة إثبات أن ثمة ما انبجس، وما نما وترعرع، وأن ما بعد «كورونا» أفضل - بوضوح لا يقبل الشك - مما قبله.