صلاح دياب
- كاتب مصري
TT

تطوير لا تغيير

كلُّ تقدُّمٍ حدثَ في العالم تمَّ بالتطوير. حدث تطور في أنواع الوقود، وفي أنماط الطاقة، وفي الآلات. العلم يتطور ولا يتغير، والقدرات البدنية تتعاظم بالتطوير لا التغيير. لم يلغِ أحدٌ الذكاء البشري ليفسح المجال أمام الذكاء الصناعي.
الأمر نفسه ينسحب على الدول؛ فالدول تتقدم عادةً بالتطوير لا التغيير.
حين تقرر تطوير أمر معين فأنت تستهدف أن تتحرك من النقطة (أ) لتصل إلى النقطة (ب)، حيث يكون الهدف محدداً، والرؤية واضحة. أما حين تريد تغييراً شاملاً، فأنت تلغي الموجود كله، لتتعثر أمام عدد لا نهائي من البدائل، ولا تعرف إلى أين تسير، كمن يقفز في الظلام.
قد ينتهي التغيير، الذي يشكّل قطيعة مع كل ما مضى، إلى شيء عظيم، لكنه في الغالب يؤدي إلى كارثة؛ فالتغيير يصاحبه هدم ما فات، أو تجاهله تماماً، للبدء بصيغة جديدة؛ وهي صيغة قد لا يساندها تراكم مطلوب وخبرات ضرورية، ولا تستفيد من ركائز انطلاق وسجل من الإنجازات، مما يعزز احتمالات الإخفاق بدرجة كبيرة.
نحن للأسف في مصر كلما أردنا تطويراً جعلناه تغييراً.
حين جاءت «ثورة 1952» غيَّرت كلَّ شيء؛ إذ ألغتِ الأحزاب والألقاب، وألغت دستور 1923 الذي انطوى على قيم ومفاهيم تشريعية متقدمة ورشيدة. ذلك الدستور الذي ناضل المصريون لإقراره، واستعادته، حين أُلغي في فترة من الفترات، جرى إلغاؤه، بدلاً من الإفادة منه والبناء عليه.
حين جاء السادات ألغى الاتحاد الاشتراكي، وأقر دستوراً جديداً، وأعاد الأحزاب إلى العمل، ثم ظهر «الحزب الوطني الديمقراطي» الحاكم، وهو حزب لم يخلُ من المساوئ والأخطاء بطبيعة الحال، لكنه كان منتشراً بقواعده في أعماق البلاد، ونشطت كوادره في كل أنحائها. حين قامت «ثورة يناير (كانون الثاني)»، لم تعطِ «الحزب الوطني» فرصة ليطور نفسه، في مواكبة الأوضاع والمطالب الجديدة؛ فتم إلغاء الحزب، بل وهدمنا مبناه. وبدلاً من أن نضيف إلى الدستور القائم بالفعل أو نعدّله لتطويره، ألغيناه، ثم جئنا بدستور جديد في 2012، ثم أوقفنا العمل به.
الدساتير تتقدم بالإضافة والتطوير. مثال على ذلك الدستور الأميركي؛ فهو ثابت منذ وضعه الآباء المؤسسون، لكن يتم تطويره، عبر إدخال تعديلات، أو تضمين إيضاحات في وثيقة المبادئ المصاحبة. أما إنجلترا، فليس لديها دستور، لكنها تمتلك ميراثاً متكاملاً من تقاليد وقواعد راسخة، يُنظر إليها باحترام شديد، وتُفعّل وتُصان، كما يحدث في أفضل البلدان مع أهم الدساتير.
في المكسيك، استمر «الحزب الثوري المؤسسي» يحكم لسبعة عقود متتالية، ثم جاء حزب معارض وتولى الحكم 12 سنة، قبل أن يستعيد «الحزب الثوري» سلطته، ويعود للفوز بالانتخابات العامة. لم يتم إلغاؤه، بل قام بمراجعات، وطوّر أداءه، ليعود للحكم مرة أخرى.
هل طلب التغيير عادةً يأتي بسبب رفض الواقع؟ كل الواقع يا ترى؟ الجيد فيه والسيئ معاً؟ هل هو نتيجة حالة إحباط أو يأس، أم مجرد سعي نحو الأفضل؟ فلو كان سعياً نحو الأفضل، فنحن بصدد مطلب التطوير، وإن كان نتيجة إحباط أو يأس، ورغبة في هدم كل ما مضى، فلا ننتظر من ورائه سوى الحيرة أمام البدائل الغامضة، والتحرك من فراغ إلى فراغ، والارتباك والتخبط، الذي قد يأخذنا إلى الخراب.
فما التفسير لحالة التهشم والغضب، التي تتفاعل في عدد من الدول العربية حولنا، مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن؟ هل تقدم الطائفية، أو التدخلات الأجنبية، إجابة شافية عن هذا السؤال؟ هل تفسر إحداهما هذا الغضب العارم الذي سيطر على الشوارع طلباً للتغيير؟ التغيير هنا هو أمل قد يصادف معجزة لم تتحقق أبداً، لكن الإشارات الواردة تقود بوضوح إلى وقوع الخراب الذي لا يعتريه شك.
هذا ما اختبرناه في تجربة الحركات الراديكالية، التي حاولت استغلال ثورات ما سُمي «الربيع العربي»، فتحولت بفعل فاعلين كُثر إلى حالة من الفوضى، سلبت الشعوب العربية قدراً متحققاً من الأمن والاستقرار، ولم تعوضها إلا بالسراب.
التغيير هو نوع من المقامرة: إما كل شيء وإما لا شيء.
التجربة الصينية خير دليل على التطوير؛ إذ لم تلغِ الحزب الشيوعي، ولم تتنصل من تاريخها؛ فصور ماو تسي تونغ لا تزال ماثلة في الميادين. كان من الممكن أن تقوم هناك ثورة تغيير تهدم كل ما بناه السابقون، لكن الدولة حافظت على ميراث الإنجازات المبرهنة، وقررت فقط تطوير نظامها الاقتصادي بالكامل. تطوير اقتصادي أدَّى إلى أن تصبحَ الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأن تتمركز في موضع إقليمي ودولي معتبر ومؤثر.
لذلك فالأزمة الاقتصادية بينها وبين الولايات المتحدة لن تغيّر من الأمر شيئاً. الاقتصاد الصيني يسير بسرعة أكبر بكثير من الولايات المتحدة، وسياسة الانفتاح تتقدم بنجاح واثق وقابل للقياس، وعبر تضافر القوة الاقتصادية المتصاعدة مع الإدارة السياسية الحاذقة، لا تفلح جهود واشنطن في كبح جماح التقدم الصيني. هذا هو رهان التطوير لا التغيير الذي تبناه النظام الصيني بعد ماو تسي تونغ وثورته الثقافية، بعكس ما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق، الذي كان يسيطر على أكبر مساحة في العالم. فعندما أرادوا تغييره لا تطويره، تفكك وانتهى أمره.
التغيير مغامرة... التطوير إضافة.
- كاتب مصري