وهل يمكن إجراء أي تسوية حقيقية لهذا النزاع بعد الانتفاضات العربية.. أم أن هذه الانتفاضات فرضت واقعا جديدا؟
TT

تساقط التَّماثيل.. العدوى مِن العِراق إلى سورية

كنت سائراً يوماً وسط دمشق، أراجع مكتبة المعهد الفرنسي، في تاريخ الأول مِن أغسطس (آب) 1990 باحثاً عن مصادر عن المعتزلة ووجدت فيها ما يغني الباحث. إلا أن نظام المكتبة: تفتح أبوابها من الصَّباح وحتى الساعة الثَّانية ظهراً، ثم تفتح في الرَّابعة عصراً حتى السَّادسة، وكانت رحلة يومية، ولأني أُقيم مع أصدقاء خارج مركز المدينة، كنت أضطر إلى قضاء السَّاعتين في صالة سينما شعبية لبرودتها في القيظ اللاهب، تشاهد بالتذكرة الواحدة عدة أفلام، ولك أن تغفو أو تصحو، وسعرها ست ليرات فقط.

وصلت إلى المكتبة، وفي اليوم الثاني، قضيت ساعة وأتاني مدير المكتبة وهو كلود سلامة، حقق كتاب “تبصرة الأدلة” لأبي المعين النَّسفي (ت508هـ)، فحينها صدر الكتاب ونفعني بما فيه مِن معلومات، قائلاً: صدام في الكويت؟ قلت ومالي وصدام ليذهب إلى الكويت أو أي بلاد؟ ولما وجدني لستُ مهتماً، جاءني قائلاً بحدة: أقول لك صدام دخل قصر أمير الكويت! ولم أفهم ما أراد حتى قال: الجيش العراقي اجتاح الكويت!

وكان الذين حول الرَّجل فرحين، ويتحدثون عن النَّفط العربي والقضية العربية، وأنه هذا هو الحلَّ في القضاء على إسرائيل وتحرير فلسطين، وهم جماعة مِن القوميين على ما يبدون! تركت المكتبة لا على شيءٍ، فذهبت إلى العراقيين في المقاهي أتسقط الأخبار، فوجدتهم بين حزين لما ستؤول إليه الأحوال بعد سماع التهديدات الأميركية القاطعة، وبين فرحٍ بنهاية النِّظام العراقي بسبب هذا الفعل، وبين مَن هو على الرغم مِن أنه مطلوب مِن قِبل النِّظام، إلا أنه عدّها فعلة شجاع تُعيد الفرع إلى الأصل وأقاويل أُخر.
لكنّ جموعا مِن العراقيين ذهبوا يتضامنون مع الكويت والأغراض شتى.

ولأني حديث العهد بدمشق لا أصل في الأيام الأولى إلى المكتبة إلا بعد السؤال، فالأزقة والحارات متشابهة، وحصل أن سألت رجلاً سورياً عن مكتبة المعهد المذكور في أبو رمانة، فقال لي: ألم تتذكر شاخصاً أو معلماً قريباً منها، فقلت له، وكانت سذاجة مني: هناك تمثال كبير للرئيس حافظ الأسد! ضحك الرَّجل وهزَّ يده وقالها وغاب عني: إذا كان هذا شاهدك فلا تصل إلى ما تريد، ألم ترَ كثرة التَّماثيل؟
هذا بسورية، أما بالعِراق فشاع عن رجلٍ يسير، في أيام النِّظام السَّابق، وينظر إلى التماثيل والجداريات والصور، الخاصة بصدام حسين (أعدم 2006)، ويهذي مع نفسه بلسان العراقي قائلاً: “شيلمه”! كناية عن كثرتها وصعوبة جمعها أو إزالتها. ورأيت رجلاً آخر يتحدث ضد الحكومة، في السبعينيات، ومع أن الباب كان مقفولاً إلا أنه: كان يقف ويتلمس الصُّور المعلقة فيها للرئيس أحمد حسن البكر (ت 1982) ونائبه آنذاك صدام حسين، ويتكلم معها: أنتِ من ورق أم تسمعين؟! كنا نعدّه يهزل، لكن لا نعلم ما في عقله الباطن فربَّما كان بالفعل يخاف مِن الصُّورة!

سقط تمثال صدام حسين، وكان عصياً على الأيدي، إلا أن أتت مصفحة أو دبابة أميركية وأسقطته وسط ساحة الفردوس قريباً مِن منطقة الأندلس، أو هو فيها، وبعد سقوطه ظهرت شجاعة الخائفين وأخذوا يضربونه بأي شيء تعبيراً عن مشاعر مختلطة، لكن ذلك السُّقوط كان هو اللحظة الفاصلة بين عهد وعهد. ولو كان السَّاقط مِن تماثيل حافظ الأسد بدمشق لأُعلنت اللحظة الفاصلة أيضاً بين عهدٍ وآخر، لكن المدن والنَّواحي غير العواصم، إذا سقطت سقط ما سواها، في احتلال أو انقلاب.

ليس أكثر مِن التَّماثيل في التَّاريخ، قبل الإسلام، أما بعده فعدت مِن الأصنام، قياساً على الأصنام التي انهارت بالكعبة(8 هـ)، وبانهيارها أُعلنت اللحظة الفاصلة بين الإسلام وما قبله في ديانة قريش، على وجه الخصوص. لذا عندما يُعبر عن رمز نظام ما مِن قبل خصومه ينعتونه بالصَّنم، وهذا ما أُطلق على تمثال صدام مِن قِبل القوى الدِّينية. لكنها تدريجياً أخذت تتجه إلى إعادة الأمجاد الصَّنمية بشخوصها وأعلامها ورموزها، مما تراها الآن ببغداد وبقية المحافظات. ممثلةً بجداريات وتماثيل، بل إن الحُكام الجدد عملوا لأنفسهم لوحات من الضَّخامة أن ترفعها السَّواعد متشابكة، واستحضار أسماء ورموز انتقامية وإطلاقها عليهم.

التَّمثال عربياً يعني الشَّبه، أو المثيل، وهو تذكار للشخص الفقيد، مِن أهل السياسة أو الفن والعلم والأدب، أما للأحياء مِن ذوي السِّياسة والقيادة فتعبر التَّماثيل عن رمزية السَّطوة، فهو إما رافعاً يده أو مهدداً بسبابته، ليقول: أنا هنا، وهذه وجودها مرتبط بالسُّلطة، لكن الغرور يصل إلى حد الشُّعور بالأبدية، فكم ممرنا مِن تحت شعار، وسط دمشق، يعجبك سجع كلماته ويخيفك معناه: “إلى الأبد قائدنا حافظ الأسد”! ومفردة الأبد عندما تجرد عن المقدس تصبح مخيفةً حقاً!

كانت تماثيل الماضين، من فراعنة وسومريين وبابليين وآشوريين، تعبر عن المنحى الديني، وهو طلب الخلود الجسماني، مع مسحة فنية فطرية، لكن هناك مَن لا يُطلق عليها ميزة الفن، لأنها خالية مِن الفكر الفني. تلك التَّماثيل إن كانت تُصنع وتنصب تعبيراً عن هيمنة الملك، فالنَّظام هو هكذا كان يجمع بين السُّلطتين الدِّينية والدُّنيوية، وهو متصل مباشرة بالآلهة، بلا نبي مرسل أو إمام موصى، لذا انقطع وجود التماثيل للخلفاء أو الأمراء في عهود الخلافة الإسلامية، هناك صور للسلاطين العثمانيين، لكن لا نظن أن هناك تماثيل للأحياء والأموات منهم.

إن الحديث عن التَّماثيل يطول ويطول، منها المهددة بالسُّقوط مع تهاوي سلطة أصحابها، ومنها ما يُحسب ثروة وطنية مِن ناحية القِدم والفن، ومِن ناحية مكوناته مِن الحديد والبرونز، وما كان أكثرها بأوروبا الشَّرقية، مع أن برلين احتفظت بتمثال ماركس وأنجلس، مؤسسي الشِّيوعية العالمية الخصم الدود للرأسمالية الليبرالية، لأنهما عُدّا ثروة قومية كونهما ألمانيين، بنما لم يبق من كثرة تماثيلهما بالعواصم الاشتراكية سابقاً.
على أية حال، عشنا وشهدنا سقوط تماثيل صدام حسين، وبطل عجب صاحبنا العراقي الذي حار بجمعها وقال: “شيلمه”! وعشنا ورأينا سقوط التِّمثال الأول لحافظ الأسد، ويُنتظر أن يهوى التَّمثال الرَّئيس، ولعلَّه ذلك الذي جعلته علامة طريقي إلى مكتبة المعهد الفرنسي فتهتُ.

هنا نستدرك، ونقول: لقد مرت عشر سنوات، إلا أيام، على سقوط تمثال ساحة الفردوس ببغداد، والأمر ليس معلوماً متى يسقط تمثال دمشق وتُنزل اللافتة التي تقول: “قائدنا إلى الأبد حافظ (بشار) الأسد”، عسى السُّوريين لا ينشدون، كما نشدنا نحن العراقيين، بعد عشرٍ، بيت محمد مهدي الجواهري (ت 1997):
مضى حمزة الصَّياد يصطاد بكرة
فآب وقد صـــــــــاد العشي غرابا