TT

مرور في شارع الزمان

كم الأسئلة كبير وثقيل وكثيف، تلقيه الأيام على عقل كل واحد، لكن الإجابة قليلة، بل منعدمة، لا أحد يرغب في الإجابة. هكذا هي الحياة، اهرب من دفعات الحقيقة تنفد بعقلك.
في ليبيا هناك مكان اسمه «المربوعة» فيها يتجمع الرجال، يشربون الشاهي. المربوعة هي الديوانية عند إخوتنا في الخليج. الكل يتحدث في كل شيء. الأستاذ ورجل الأعمال والأمي، شرط أن يكون ينتمي إلى عائلة أو قبيلة تعطيه مكاناً مع الجالسين. في المربوعة أو الديوانية يفصّل الرجال العالم على مقاس عقلهم، يتناولون ما صغر وما كبر من أمور القبيلة والقرية أو المدينة اجتماعياً واقتصادياً وما يجد في الساحة السياسية وغيرها. في وسط المربوعة أو الديوانية يجلس الرجل الذي يصمت، ولا يصمت. لحيته يلونها سمت الوقار، وجرده إهاب حكمة تنزُّ رؤية اجتماعية بسيطة، يتداخل فيها الماضي والحاضر المتنوع. الشارع في كل مكان له عقل آخر وصوت متعدد اللهجات، له إشارات مرور تصنع ألوانها الاجتماعية ونبراتها التي تصوغ مفاهيم تدفعها إلى الناس. المقهى مكان غير مألوف في المحطات الاجتماعية العربية. لا يرتاده كبار القوم فيما مضى من الزمن، وخاصة في الدواخل، لكنه مع ظهور جيل جديد صار الضوء الذي تتحلق فيه فراشات من الشباب. الحديث في المقاهي غير ذاك الذي تلوكه الألسن في المرابيع والديوانيات. صار لكرة القدم وأفلام السينما حتى الموضة مساحة في ملاعب الكلام.
اليوم أصبح الفضاء المعلوم والمجهول هو ديوانية ومربوعة تضم الجميع دون تمييز، يلتقي فيها من لا يعرفون بعضهم، ولا تجمعهم رابطة قربى أو عمل أو فكر. أصبحت كلمة «صديق» تعبيراً نمطياً مكروراً فوق صفحات التواصل الاجتماعي؛ حيث يلتقي الأستاذ والعامل وشبه الأمي على مائدة في ديوانية أو صالون أو مربوعة. الجميع يتحدث في كل شيء، وعن الفتاوى لا تسل، وكذلك تحليل كل مجريات الأمور من السياسة إلى الاقتصاد والفن حتى الفلسفة. سطور قصيرة أو طويلة تتحدث عن الأخلاق ولا تغيب عنها آيات من القرآن والأحاديث النبوية، وكذلك الاقتباسات التاريخية. الجميع متساوون في فضاء الكتابة المفتوح. إلى وقت قريب، كان كبار الكتّاب العرب وفي كل المجالات لا تتعدى النسخ المنشورة من مؤلفاتهم بضعة آلاف، وإن ازدهرت كتب الرواية بقدر. ساهمت الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية في زيادة الإقبال على روايات بعض المؤلفين، مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهما، مثلما صنعت أغاني أم كلثوم جسراً بين الشعراء والقارئين، مثل أحمد شوقي وإبراهيم ناجي وحافظ إبراهيم، أما نزار قباني الذي كانت قصائده عطر العواطف بين الأحبة كبارهم وصغارهم فقد جعلها عبد الحليم حافظ جسراً صوتياً وموسيقياً عابراً للقلوب، ومن بعده كاظم الساهر الذي رشَّ فيها شجناً عراقياً لذيذاً يسر العاشقين. القادم الإلكتروني السحري صنع له زمناً فريداً وجمهوراً جديداً. صار المستهلك منتجاً. الجميع قارئ وكاتب، ناقد ومحلل، بل أحياناً مفكر وفيلسوف. انكسر مفهوم النجم والنخبة والأستاذية. لقد كان الراديو أكثر حظاً، فقد أخذ من الزمان نصيبه الأكبر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، قبل أن يغزو التلفزيون أغلب البيوت في العقد السابع من القرن الماضي، أضاف إلى الأذن قوة العين، وبعد سيادة اختراع الفضائيات، انكمشت المسافات، بل تلاشت وصارت القنوات التي لا يتوقف بثها في حاجة إلى ملء أوقاتها ببرامج تحتاج إلى آلاف المتحدثين في كل المجالات، منهم من له قدرات تخصصية عميقة وواسعة، ومنهم دون ذلك، لكن المشهد التلفزيوني يجعل من العيي خطيباً. اللغة الثالثة التي تجمع بين العامية والفصحى ولغة الجسد التي تحول المتحدث إلى ممثل لها تأثير هائل على المشاهد. لقد انشدّ ملايين المسلمين إلى أحاديث الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي عبر التلفزيون بقدرته الفريدة على إبداع لغة شكلت وعاء يجمع بين الفصحى والعامية، يتماهى مع تعبيراته متعددة الطبقات الصوتية في حركات تحول الجسد إلى خيوط اتصال مباشر مع الجمهور، وتفوق بذلك على كثير ممن سبقوه من كبار المفكرين المسلمين، رغم أنه لم يؤلف كتاباً واحداً بخط يده، بل فُرّغت محاضراته في أكثر من كتاب. صدقت مقولة الأستاذ الإعلامي، مارشال ماكلوهان، التي قال فيها: «الوسيلة الإعلامية هي الرسالة». «فيسبوك» صنع زمناً خاصاً حيث ينتقل مستعمله في ثوانٍ من زمن إلى آخر، وهو يستعرض ما يكتبه جمهور هذا الفضاء المتعدد والمتنوع؛ حيث السطور القليلة أو الكثيرة التي لا يغيب عنها المتعصب والمتشدد والمعتدل والعالِم وغيره. هل يمكن القول إن وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي تصنع زمننا وتصوغه وتضعنا في دنيا سائلة يحلُّ فيها المزاج المتحرك محل ما كان يُطلق عليه الرأي العام؟ هل سيتوقف الدفق الإلكتروني عند ما نراه أمامنا اليوم، ونستعمله، أم سيقدم طوفان الاختراعات جديداً يبدع زمناً آخر؟
نحن أمام شخصية إنسانية جديدة تمتاز بقوة الفردية؛ حيث يكون الشخص الواحد له دنياه التي لا يكتفي فيها بالأخذ من الآخر، بل يعيد شحن ذاته بأفكار وتوجهات هي من بنات وأولاد ما ينبع من ذاته التي صارت حقلاً يصنع بذوره وسماده وينبت زرعه، ولا يقدح ذلك في تشكيل الدوائر الاجتماعية التي تضم فئات وشرائح متنوعة من البشر، لكنها مثل الحبة في العنقود، تفرد في تجمع، وهذا ما تعبر عنه اليوم ظاهرة الشعبوية التي أنتجت قوة «الشارع»، وهو العنقود أو العرجون الذي تتحرك فيه الحبات الذاتية المتدافعة التي تعرف ماذا ترفض، وقلما تدرك تحديداً ماذا تريد.