عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

أطول أسبوع في وستمنستر

أطول أسبوع في وستمنستر منذ وجودي في مجلس العموم لقرابة عشرين عاماً تغطية لنشاط أم البرلمانات.
أسبوع بدأ بانتصار حزب المحافظين العريق الانتخابي بأكبر أغلبية للحزب منذ 1987، وانتهى بنجاح حكومة بوريس جونسون في ضمان الخروج من الاتحاد الأوروبي نهاية الشهر المقبل، بأغلبية 124 صوتاً، وهو ما أخفقت فيه الحكومة السابقة في ثلاث سنوات.
الأغلبية الكبيرة تبشر بعهد جديد وثورة تغيير اقتصادية اجتماعية لم تشهدها المملكة المتحدة منذ وزارة الليدي ثاتشر الأولى (1979 - 1983).
الأسبوع الأطول أتاح فرصة الاطلاع على أرقام نتائج التصويت بالتفصيل، وتحليل تقارير مروجي برامج الأحزاب بين سكان الدوائر الانتخابية، بجانب مقابلة الأصدقاء الساسة من وزراء ونواب سابقين، ومعاد انتخابهم، بجانب نواب انتخبوا للمرة الأولى.
توقفت عند ملاحظتين؛ الأولى مراهنة أغلب المهاجرين، من بلدان الجامعة العربية، على حزب العمال الخاسر. وأيضاً هجوم أغلبية مثقفي هذه البلدان على رئيس الوزراء بوريس جونسون، واستخدام تعبيرات الكراهية واتهامات (بلا أدلة أو دراسة الواقع) ضده؛ وهي تكرار لحملتهم الآيديولوجية ضد الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
الثانية، ويبدو أنها فاتت المثقفين العرب، هي تغير الخريطة السياسية الانتخابية ديموغرافياً في المملكة المتحدة، ما يضع حزب العمال في موقف ضعيف مماثل لحالته في عام 1981.
هذا التغير يدفعني لتوقع بقاء حزب المحافظين «النيو - ثاتشري» في الحكم لأكثر من عقد بلا مواجهة من العمال قبل انتخابات 2029 وربما 2034.
ومن الحكمة أن يضبط ساسة البلدان الأعضاء في الجامعة العربية، والمستثمرون والاقتصاديون فيها، مؤشرات سياستهم الخارجية للتعامل مع بريطانيا يحكمها المحافظون على المدى الطويل خارج الاتحاد الأوروبي.
تمتع المحافظون بأغلبية مريحة سيمكنهم من إصلاح آثار التخريبات الدستورية التي تركتها وزارات توني بلير الثلاث (1997 - 2010)، ووزارة ديفيد كاميرون الأولى (2010 - 2015)، مثل إصدار قوانين لإعادة التوازن بين السلطات الثلاث لتأكيد الفصل بينها، خصوصاً بعد تدخل السلطة القضائية في السياسة، عبر ثغرات دستورية، لمنع الحكومة المنتخبة من تنفيذ قرارات أصدرتها السلطة التشريعية.
وأيضاً إنهاء تثبيت الدورة البرلمانية، ما يتيح لرئيس الوزراء الدعوة إلى انتخابات في المناخ المناسب، مقوياً من احتمالات استمرار المحافظين في الحكم. فخطاب الملكة الخميس (مشروع برنامج الحكومة) هو خطة لعشر سنوات وليس لدورة برلمانية.
تشريح نتائج الانتخابات اعتمد على الأرقام المتاحة ومن الحوار على عتبة الدار، وهو طبيعة الحملات الانتخابية في المملكة المتحدة بعكس معظم بلدان العالم الأكثر تأثراً بالمظاهر الصاخبة ذات الطبيعة الاحتفالية، حيث يلقي الزعماء ومشاهير الحزب الخطب الرنانة، وأيضاً التأثير الكبير لشبكات الإذاعة والتلفزيون.
أما عامل الحسم في الإقناع هنا في نظام الدوائر الانتخابية فكان الحوار المباشر مع الأفراد على عتبة الدار، وفي الشارع والأسواق، وهو ما قام به 650 مرشحاً من الحزبين الكبيرين. أما نظام القوائم النسبية فيكون تأثير الصحافة الإذاعية والتلفزيونية فيها كبيراً.
الملاحظة فاتت المثقفين العرب والبريطانيين الشرق أوسطيين في هجومهم في وسائل التواصل الاجتماعي على رئيس الوزراء جونسون؛ خصوصاً الذين كان دافعهم هو دعم زعيم حزب العمال، جيرمي كوربن للقضية الفلسطينية. معظم تعليقاتهم تشير إلى اعتقادهم أن هناك تآمراً عليه، بسبب الموقف «المبدئي» من القضية الفلسطينية، بتضخيم الاتهامات له بمعاداة السامية. وكتب مثقفون مصريون أن حملة تشويه صورته بهذه التهمة كانت من أسباب هزيمة حزبه.
الواقع بالأدلة أن تهم معاداة السامية لم تكن عاملاً محسوس التأثير في التصويت، مثلما يظن العرب.
جميع النواب الذين هجروا حزب العمال بسبب معاداة السامية سقطوا جميعاً بلا استثناء، بينهم مايك غيبس، النائب العمالي منذ 1992 عن دائرة إيلفورد (أصوات اليهود فيها حاسمة) ورئيس لجنة الشؤون الخارجية سابقاً، خسر الدائرة لمرشح حزب العمال ويلزي ستريتينغ، من مؤيدي كوربن.
لوسيانا بيرغر، التي هجرت الحزب بعد تعرضها لحملة إهانات (ناشطة في جمعية أصدقاء إسرائيل في حزب العمال) خسرت في دائرة فينشلي رغم أنها يهودية وأكثر من نصف الناخبين من اليهود.
الناخبون اليهود - في دوائر محددة فقط - أثاروا هذه النقطة على عتبة الدار، لكنهم عددياً لم يشكلوا عاملاً حاسماً في النتيجة.
أهم النقاط التي أثارها الناخبون على عتبة الدار فيما يتعلق بثقتهم بالزعيم العمالي كوربن، كانت بالترتيب: موقفه المتردد من «بريكست»، وخوض العمال الانتخابات بمانيفستو «اللا - موقف»، فقد وعدوا بطرح الصفقة مع بروكسل في استفتاء عام، القبول أو البقاء في الاتحاد.
وقد خسر العمال 59 من الدوائر، أكثرها كانت «مضمونة» لعشرات السنين، 49 منها في مناطق الطبقات العاملة التي صوتت لـ«بريكست» ذهبت للمحافظين.
النقطة التالية كانت عدم ثقة الناخب في التزام كوربن بالدفاع عن البلاد، فهويته «دولية» وليست وطنية بريطانية، فهو يدعو لنزع السلاح النووي وتسليم الفولكلاند للأرجنتين.
المثقفون والمعلقون العرب - معظمهم من قراء «الغارديان» لموقفها من فلسطين ودعمها لـ«حماس» و«حزب الله» والتيارات الراديكالية - يبدو أنهم تأثروا بالمناخ الذي خلقته «بي بي سي» وأخواتها من شبكات اليسار الليبرالي التي تنحصر رؤيتها للبلاد في دائرة الطبقة الوسطى لموزييك العاصمة لندن «وهي 73 دائرة» كصورة مصغرة من العالم لكنها لا تتشابه مع 577 دائرة في بقية أنحاء المملكة المتحدة. البرامج السياسية في «بي بي سي» ومثيلاتها ناقشت قضايا بعيدة عن الأولويات التي أثارها الناخبون على عتبة الدار في دوائر الطبقات العاملة التي تعاني من البطالة وتراجع الخدمات.
ركزت دعاية حزب العمال على اتهام المحافظين بأنهم سيبيعون مستشفيات وخدمات الصحة العامة إلى ترمب. كانت إجابة الكثيرين من الطبقات الفقيرة: «نحن نحب الرئيس ترمب، نريد زعيماً مثله يضع المصلحة الوطنية أولاً».
المعلقون الليبراليون من لندن الدولية الهوية اتهموا المحافظين بأن «بريكست» وسياستهم معرقلان «لمكافحة التغير المناخي». البيئة جاء ترتيبها الثامن في أولويات الناخبين خارج لندن، وفي معظم الأحوال بادر الصحافيون لا الناخب، بإثارتها، وظل حزب الخضر أسير مقعده اليتيم.
الدرس هنا أن الناخب في أم الديمقراطيات، يفضل حكومة قوية لها موقف واضح، أما التيارات والأحزاب التي وصفت غالبية الناخبين (17 مليوناً و400 ألف صوتوا لـ«بريكست») بأنهم عنصريون، أغبياء، يجهلون ما يصوتون عليه؛ فقد دفعت ثمن عنجهيتها واستعلائها في صندوق الاقتراع برفض الناخب برامجهم. وعلى المثقفين العرب محاولة التعرف على بريطانيا الأخرى الحقيقية لا التي تصورها الصحافة والشبكات التي تعجبهم مواقفها الآيديولوجية.