فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

ما قبل إعادة إعمار سوريا

ما زالت تتردد بين وقت وآخر الأحاديث عن إعادة الإعمار في سوريا، رغم كل النقاشات التي تناولت الموضوع، في الأعوام الثلاثة الماضية، والتي جعلت المواقف الدولية مانعاً لها بالقول إن طرح الفكرة، وليس المضي في تطبيقاتها، أمر سابق لأوانه. ذلك أن الذين سيتحملون عبء إعادة الإعمار عبر تقديم المنح والإعانات لتغطية التكاليف، ربطوا موافقتهم بالذهاب إلى حل سياسي للقضية السورية، وهو أمر ما زال نظام الأسد يرفضه، ويراوغ مناصروه الروس والإيرانيون للالتفاف عليه عبر سياسات تسكين، لا حل، وفق ما تجسده جهودهم في آستانة وسوتشي، لتكون بديلاً عن «مسار جنيف» الذي يمثل مسار الحل الدولي المتوافق عليه.
وتُستمد وجاهة وأهمية الربط بين إعادة الإعمار والحل السياسي للقضية السورية من أمرين؛ أولهما خوف المانحين من قيام النظام وحلفائه بالاستيلاء على تقدمات المانحين، وإدخالها في سياق سياسته الخاصة، كما حصل ويحصل بمساعدات الدول والمنظمات الدولية للشعب السوري، حيث يوزع النظام ما يتسلَّمه على شبيحته وبطانته، ولا يذهب منها إلا القليل إلى غيرهم، وهم الأكثر تضرراً وحاجة من إجمالي السوريين، والأمر الثاني أن يتفرد النظام، ومعه الروس والإيرانيون، بتوجيه أموال ومشروعات إعادة الإعمار بما يتفق مع مصالحهم، ويخدم مشروعهم في سوريا، مع أقل قدر من المراعاة للاحتياجات الأساسية للسوريين من جهة، ومصالح الأطراف المشاركة في إعادة الإعمار، وثمة كثير من التأكيدات أصدرها النظام وحلفاؤه تعبيراً عن هذا التوجه.
ورغم أهمية رأي المانحين والخلفية التي ينطلق منها موقفهم، وما يحيط بالعملية من مخاوف تتصل بسياسات النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، فثمة اعتقاد بأنه لا بد من التدقيق في نقاط ووقائع أنتجتها سنوات الحرب تتصل بموضوع إعادة الإعمار، ولها تأثير كبير على فكرته ومساره ونتائجه المحتملة، والأبرز فيها:
إن إعادة الإعمار ستجري في بلد تحكمه سلطة مسؤولة بصورة مباشرة عما آلت إليه حالة سوريا والسوريين، ليس فقط لجهة مسؤوليتها عن تدمير القدرات المادية والبشرية، بل لجهة التفريط في السيادة الوطنية، ووضع سوريا تحت احتلالات أجنبية، وجعل القرار السوري مرهوناً لإرادة الروس والإيرانيين الذين سيكون لهم التأثير الأساسي في قرارات إعادة الإعمار.
وأحدثت السنوات الماضية تغييرات عميقة في واقع السوريين، كان بينها تشريد وتدمير غالبية قواهم البشرية قتلاً وجرحاً وتهجيراً، وحتى مَن بقي منها خارج تلك المصائر، فإن أكثرهم غادر مسارات حياته السابقة وأنماط عيشه، وتخلّف عن خبراته، وربما غادر قناعاته ودوره الاجتماعي.
إن البنى التحتية للدولة والمجتمع تم تدميرها جزئياً أو كلياً. فمؤسسات الدولة لم تعد مؤسسات للسوريين، إنما هي مؤسسات للنظام والموالين له، وهذا الأمر لا ينطبق على المؤسستين الأمنية والعسكرية فقط، وإنما على كل المؤسسات، ومنها مؤسسات الخدمات التي تخص البيئات التابعة للنظام بأفضل ما لديها، وتعطي ما تبقى للبقية من السوريين، كما في مثال توزيع الكهرباء أو الغاز أو المحروقات، وفي تقديم خدمات مثل التعليم والصحة، التي صار السوريون من غير بيئة النظام لا يحصلون عليها إلا بشكل محدود.
وتركت الحرب بصماتها على قطاعات الاقتصاد السوري؛ فعطلت قطاعات الإنتاج من زراعة وصناعة وحرف بمستويات متعددة، كما ألحقت أضراراً كبيرة بقطاعات الخدمات، مثل السياحة والنقل والمصارف، وحدثت تغييرات في مكانة بعض أنشطة الاقتصاد الوطني، كما في تراجع دور القطاعات الإنتاجية مقابل نمو أكبر في قطاع الخدمات والأنشطة الهامشية.
وأدَّت سنوات الحرب إلى تبدل هيكلي في واقع النخبة السورية، وهو أمر لا يقتصر على نخبة المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، بل يشمل نخبة المناطق الأخرى. وفي كل الحالات، فقد تنامى حضور وتأثير الشخصيات الأمنية والعسكرية لدى الجانبين، وصعد دور المنظّرين من المتدينين والإعلاميين في إطار حملات الترويج الديماغوجي لسياسات أطراف الصراع، وصعد دور تجار الحرب الذين شكلوا وسطاء لتبادل المصالح العاجلة مع قادة الحرب وتنظيماتهم، وكله شكّل انقلاباً في واقع النخبة السورية ودورها.
وطبقاً للتقديرات، فإن الخسائر المادية للحرب تجاوزت ستمائة مليار دولار، وهو مبلغ كبير بالنسبة للاقتصاد السوري الذي راكم طرفا الصراع فيه ثروات كبيرة، وطبقاً للتقديرات، فإن ثروة آل الأسد تزيد على ثلاثمائة مليار دولار، إلى جانب ثروات بطانتهم، ولا سيما تجار الحرب، التي تقول التقديرات إن حجمها قريب من هذا الرقم، بينما أشارت تقارير إعلامية إلى أن ثروات النافذين على الطرف الآخر من الصراع بلغت مئات ملايين الدولارات. وفي الحالتين، ليس من المتوقع استخدام هذه الأموال في إعادة الإعمار إلا بصورة جزئية، لأسباب عدة، أبرزها أن أصحابها قيد المراقبة والتتبع من مختلف الأطراف.
واستبعاد ثروات النافذين من المشاركة في إعادة الإعمار يمثل خطّاً موازياً لاستبعاد القدرات التقليدية القوية في الاقتصاد السوري، والإشارة في هذا الجانب تتعلق بالثروات الاستخراجية، ومنها الغاز والنفط، والمحاصيل الزراعية الاستراتيجية، وأبرزها القطن والحبوب، والأخيرة صارت في أدنى مستويات إنتاجها، أما الأولى فقد أصبحت تحت السيطرة الأجنبية، كما في حالة السيطرة الأميركية على حقول الشمال الشرقي، وسيطرة إيران وروسيا في مناطق دير الزور، وامتدادها غرباً في عمق البادية السورية، أو بفعل اتفاقات عقدها النظام مع حليفيه الروسي والإيراني، وإعطائهما امتيازات العمل في قطاع النفط والغاز، بالعمل بين حدي الاستكشاف والاستهلاك، وشملت الامتيازات مناطق في الداخل والمياه الإقليمية.
وقد يكون من المهم الإشارة إلى تفريط النظام في بوابات الخروج والدخول إلى سوريا، حيث أعطيت روسيا حق السيطرة والإدارة على ميناء طرطوس، وحصلت إيران بصورة مماثلة على ميناء اللاذقية، ولا يحتاج إلى تأكيد أن السيطرة الروسية - الإيرانية على المطارات المدنية والعسكرية، أمر واقع، إضافة إلى سيطرة الإيرانيين وميليشياتهم على بعض المنافذ البرية، ومنها المنفذ الرئيسي مع العراق، معبر القائم - البوكمال، الذي تتحكم فيه إيران، بينما يتحكم «حزب الله» اللبناني التابع لها بأغلب المعابر السورية مع لبنان، خصوصاً معبر جديدة - المصنع، ولا يحتاج إلى التأكيد على أن عدم سيطرة أي نظام على معابره التي تربطه بالعالم، يجعله غير قادر على التحكم في ما يمر من حدوده دخولاً وخروجاً، وهو الحال الذي صار عليه نظام الأسد في سوريا، والوضع إلى تفاقم متزايد.
إن التوقف عند هذه النقاط يمثّل ضرورة تسبق عملية الإعمار، بل يمثل الأساس في إعادة بناء قواعد البيانات والإحصائيات السورية، التي ستتم عملية إعادة البناء على أساسها سواء من حيث القدرات، أو من حيث الطموحات والأهداف المرجوة.