فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

مع ولي نصر وضده... حول عوامل العنف

منذ نشأة جماعات العنف في العالم والدراسات تبحث بشكلٍ حثيث عن العوامل المؤدية بالإنسان إلى تبني الأفكار الدموية ومن ثم تطبيقها.
ثمة تحليل لقي رواجاً في أواخر التسعينات؛ طُرح بعدد من الدراسات المتناولة لسيرة الجهاديين، وخلاصته أن المدارس الدينية ليست أساسية في التدجين، على سبيل المثال: أمير «تنظيم الجهاد» عبد السلام فرج خريج كلية الهندسة، وأسامة بن لادن درس الاقتصاد، وأيمن الظواهري تخصص بالطب. يرى من يتبنى هذا التحليل أن ذهنية خريج العلوم الطبيعية أو الحسابية تبحث عن حلول نهائية، للمسألة على الطريقة الرياضية، مما يمنعه من تفعيل نسبية الحقيقة في الحكم الشرعي.
وقد تبنى هذا التحليل أساتذة أجلاء ولكنهم لم يستخدموا هذا العامل للهروب من إدانة التفسير المتطرف للنصوص.
ممن تبنى هذا التفسير بطريقة مباشرة أستاذ السياسة الدولية ولي نصر، إذ يقول في فصل بعنوان «المسار الحقيقي للأصولية» ضمن كتابه «صعود قوى الثروة»: «لا يمكن أن نعزو الإقبال على الأصولية، بكل بساطة، إلى طريقة التفكير اللامنطقي. والفكرة السائدة في الغرب بأن التطرف قد نشأ في المدارس الدينية تتوافق مع الرأي القائل إنّ الأصولية هي نزعة التمسّك بالقديم التي يميل إليها الذين لا يعلمون شيئاً عن الحداثة. ولهذا فإن تحديث التعليم يمكن أن يؤدي إلى الاعتدال، إن لم يؤدِّ كذلك إلى العلمنة، وذلك بنقل هؤلاء الرجعيين إلى القرن الحادي والعشرين. لكنّ الملاحظ أن جميع الذين شاركوا في هجمات 11 سبتمبر (أيلول) لم يتلقوا تعليماً إسلامياً تقليدياً. كما إنّ عدداً لا بأس به منهم قد درس العلوم والهندسة. والواقع أن الأصولية، منذ ما قبل 11 سبتمبر بزمن طويل، كانت تستهوي طلاب العلوم والهندسة - أي أكثر الناس احتكاكاً بالتفكير العلمي والمنطقي الحديث، ومعظم هؤلاء قد عاش ودرس في الغرب. ولو كانوا في الجيل الذي سبقهم لربما كوّنوا العناصر الأساسية في العديد من دول الشرق الأوسط العلمانية. فالأصولية تتمثَّل العقلانية في الإسلام والإسلام في العقلانية. وإذا كان هذا محيّراً للمراقبين الغربيين فإنه عامل جذب لمعتنقي الأصولية».
إن الاعتماد على عاملٍ واحدٍ لمسببات انضمام الأصوليين للجماعات المقاتلة وممارستهم للعنف يحتاج إلى مسح وجرد للشخصيات والقادة، غير أن مثل هذا المسح لاستجلاء جامعٍ معرفي أساسي غالب عليهم لم يتم، وآية ذلك أن المجتمع المتطرف متنوع بمرجعيات المنتمين إليه، فالقيادي الأميركي اليمني بـ«القاعدة» أنور العولقي يختلف في تكوينه الآيديولوجي عن زميله إبراهيم الربيش، ومثل ذلك اختلاف مرجعية يوسف العييري عن عبد العزيز المقرن، من أولئك من تكوّن في بيئة الصحوة الإسلامية (السرورية) ومنهم من جاء من الخلايا الإخوانية، والبعض من السلفية المحضة، وعليه فإن البحث عن عاملٍ يشمل الغالبية بالطريقة التي بني عليها تحليل «علموية الإرهابيين» واختصاصاتهم بالعلوم الطبيعية يحتاج إلى مناقشة ومحاججة مستفيضتين، مع أن ولي نصر لم يزعم أن هذا التحليل من خواطره هو، بل مؤكد أنه قرأ مثله في الدراسات التي ينكبّ عليها حول الشرق الأوسط بحكم عمله وتعليمه لهذا المجال في عدد من المراكز والجامعات.
نعم، الجماعات المقاتلة بجميع أطيافها تجمعها عقائد وأفكار عنف دموية، لكن موجبات البدء بالنزال تختلف نظرياً من جماعة إلى أخرى، «حزب التحرير»، و«الإخوان»، و«القاعدة»، كلها تدعو إلى قتال «الطواغيت» بناءً على «نظرية الحاكمية» في الإسلام السياسي، لكن مبررات الشروع والبدء بالحرب تختلف باختلاف مكوّنات كل جماعة وبنائها.
يمكن الاستفادة من تمييز ولي نصر لـ«طالبان» في تحليله وهو متخصص بها، إذ يقول: «من الواضح تماماً أن وضع (طالبان) يختلف عن التصوّر السابق ذكره، إذ إنّهم يرفضون رفضاً قاطعاً كل ما هو حديث وعصري. غير أن حركة (طالبان) يجب أن يُنظر إليها على أنّها تنظيم فريد من نوعه - لا ينسجم بالكامل مع حركة الأصولية الأوسع. فعندما تولّت (طالبان) السلطة في أفغانستان، أسست نظاماً سياسياً قبليّاً من البشتون مشابهاً لإمارات القرون الوسطى وخاضعاً للأعراف القبلية بدلاً من التنظيمات البيروقراطية والقانونية التي تحبّذها الأصولية».
هنا تمييز بين الجماعات وأولوياتها وتكوينها، مثلاً: هدم الأوثان أمر مشترك بين الجماعات الإرهابية، لكن تختلف بأولوياتها، مَن أيّد «طالبان» في هدم تماثلي بوذا عام 1997 تنظيم «القاعدة»، ولكن اختلفت معها كل من السلفية التقليدية، وبعض الطروحات السرورية، ومجاميع إخوانية، لأن الاختلاف يشمل الأولويات، والمبررات الفقهية، وظرف التنفيذ، ومفهوم الوثن عند الملا عمر، غيره عند سيد قطب!
مثل فوضى الاختلاف تلك تنسحب على المسارات النظرية المختلفة للقادة في تلك الجماعات وتعدد مشاربهم، والجذر النظري الذي يرجع إليه كل شخص، ومرجع جذوة العنف لدى كل منظّر.
عامل التعليم الدراسي أو الجامعي وطغيانه على الحركي والدعوي لا يحل السؤال حول المحفزات المهيئة للفرد لأن يكون عضواً أو قيادياً في الجماعات المتطرفة، قادة كثر لم يكونوا ملتزمين بالصلاة والصوم، ولكن هذا لا ينفي تبني الانتماء إلى هذه الجماعة المقاتلة، ولا يفرغ عمله من غايته الأصولية، ولا يخرجه من الدفاع حتى الموت عن الآيديولوجيا.
علينا تجديد البحث في الظاهرة الأصولية للخروج من التعليلات المملة المرحّلة منذ التسعينات لفهم الإرهاب في عالم اليوم، فالعنف يتجدد ولا بد من تجديد آليات البحث فيه على مستويين؛ محتوى المعلومات، وحداثة الأدوات.