د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

تحرير طرابلس مرة أخرى... نتائج محتملة

تحركت قوات الجيش الوطني الليبي نحو عمق طرابلس، العاصمة الليبية المغدورة، بغرض تحريرها وفقاً لبيان القائد العام للجيش الليبي من سطوة الميليشيات المسلحة وتحرير أهلها من نفوذ وإرهاب هذه الميليشيات التي لا تتقيد بأي شرائع، ولا تبغي سوى مصالحها الضيقة على حساب الشعب الليبي ككل. وهذه ليست المرة الأولى التي تبدأ فيها معركة عسكرية كبرى بغية السيطرة على طرابلس. فقد سبق هذه المحاولة الأخيرة ثلاث محاولات، ولكنها توقفت عند محيط العاصمة، الأمر الذي يجعل المعركة الجارية منذ أسبوع بمثابة المرحلة الثانية الكبرى، وهنا يبدو أهم ملمح، فعند البداية في أبريل (نيسان) الماضي كانت مسيرة القوات الليبية المتجهة من الشرق نحو طرابلس تقارب الألف كيلومتر، وهي مسافة طويلة صاحبها الكثير من المشقة في الانتقال ومواجهة الجيوب المسلحة الصغيرة المنتشرة على الطريق. لكنها هذه المرة تبدأ هجومها على بعد مسافات لا تزيد على 30 كيلومترا، ما يعطيها زخماً أكبر وقدرة أكبر على مواصلة مهمتها وهي في قمة لياقتها العسكرية.
المعارك العسكرية كما هو معروف لا تدور فقط في ظل معادلات عسكرية بحتة تتعلق بتوازن القوى وحجم التسليح ومهارات التدريب والتخطيط وما إلى ذلك من أمور عسكرية وفنية، بل تدور في ظل بيئة سياسية وإقليمية، مليئة بالمتغيرات والعوامل ما بين سلبية وإيجابية. وبالنظر إلى عناصر البيئة المصاحبة لعملية تحرير طرابلس الراهنة، نلمح عدداً من المتغيرات المهمة على النحو التالي؛ فهي أولاً تبدأ من مسافة قريبة والقوات المشاركة باتت أفضل تسليحاً وتدريباً وأكثر عدداً وتصميماً عما كانت عليه قبل ثمانية أشهر، وأفضل معرفة بجغرافيا المواقع المستهدفة، يقابلها ميليشيات ومجموعات عسكرية لديها أسلحة ومعدات عسكرية بكميات كبيرة جاءت من تركيا ومولتها قطر، ولكنها لا تجد من يشغلها أو يستطيع استخدامها من العناصر المنضوية في تلك الميليشيات، ما يجعل الاستفادة منها محدودة للغاية ما لم يأت من يستطيع تشغيلها حسب الأصول. وهذه النقطة تحديداً تفسر تلميحات الرئيس التركي إردوغان باستعداده لإرسال قوات إلى ليبيا شرط أن تطلب حكومة الوفاق ذلك، والتي تجدها دوائر جماعة «الإخوان» الليبية فرصة يجب على حكومة الوفاق وعلى السراج شخصياً استغلالها، ما يعكس معضلة العنصر البشري لدى الوفاق و«الإخوان».
وثانياً: امتداداً لما سبق، فإن الحديث عن استقدام قوات أجنبية لتثبيت مواقع الحكومة برئاسة السراج في محيط طرابلس، قد نال من شرعية أصحاب هذه الدعوة أمام الليبيين، بافتراض أن لهم شرعية بالأساس. صحيح أن هناك اعترافاً دولياً بهذه الحكومة، ولكنها بمقاييس شرعية الحكم ورضا الناس وقدرتها على حماية استقلال البلاد فمن المؤكد أن لا شرعية لها على الإطلاق. وهو ما أثبتته واقعة توقيع السراج خلافاً لما نص عليه اتفاق الصخيرات لثلاث مذكرات تفاهم مع تركيا، تتيح للأخيرة السيطرة على مفاصل الغرب الليبي سياسياً وأمنياً وعسكرياً، ما يجعله تحت وصاية تركية غير مشروعة وغير مقبولة من عموم الليبيين. ويقابل ذلك مسعى الجيش الوطني الليبي لتثبيت سيادة المؤسسات الليبية على كامل الأرض والموارد، ما يضيف معنوياً لعملية تحرير طرابلس، بنفس القدر الذي يُخصم من السراج وحكومته.
وثالثاً تدور هذه المعركة في ظل تغير إقليمي مهم، ناتج عن توقيع مذكرات تفاهم غير مشروعة تتيح لتركيا من دون وجه حق أن تسيطر على شريط مهم من مياه المتوسط والادعاء بأنه تحت السيادة التركية، ولا يجوز لأحد أن يتحرك فيه إلا بإذن من أنقرة، في تناقض كامل للقانون الدولي، ومع تجاهل لحقوق اليونان وقبرص المثبتة. وهنا يبدو الجديد الداعم لمهمة الجيش الوطني الليبي في وقوف كل من اليونان وقبرص بصورة عملية مع جهود البحرية الليبية التابعة للجيش الليبي لإبطال مفعول المذكرات الثلاث، ومنع وصول أي إمدادات عسكرية تركية للميليشيات المسلحة التابعة لحكومة السراج، ناهيك عن وقوف الاتحاد الأوروبي مع اليونان وقبرص في رفضهما المذكرات الثلاث واعتبارها غير قانونية ولا يترتب عنها أي حقوق لتركيا. وهو ما يضيف أيضاً أبعاداً مؤيدة لحملة الجيش الوطني الليبي ويخصم من شرعية تحركات السراج.
ورابعاً: رغم قيام القوات الجوية الليبية بتدمير مخازن أسلحة تركية الصنع في مناطق وبلدات تسيطر عليها ميليشيات الوفاق وأنصارها، فإن إصرار تركيا على إرسال المزيد من الأسلحة، وفقاً لبيان القيادة العامة للقوات الليبية، يؤشر إلى أن تحرير طرابلس سيتطلب تضحيات كبيرة ومواجهات أكبر قد تتضمن عناصر بشرية تركية سواء أعلن عن إرسالها لليبيا رسمياً أو بصورة غير رسمية.
وخامساً: سيظل لتأييد أهل طرابلس بقدوم الجيش الوطني إلى عمق العاصمة أهمية كبرى، ليس فقط في تحريرها من مغتصبيها، وإنما لتثبيت هذا التحرير وتحويله إلى حالة دائمة، يترتب عليها تغييرات كبرى في الحالة الليبية ككل. لكن الأمر سيتطلب جولة أخرى لا تقل سخونة عن معركة تحرير العاصمة، ونعني تحرير مصراتة من نفوذ وسطوة الجماعات المسلحة، والتي تعد مركزاً رئيسياً لتدريب ميليشيات الوفاق.
وسادساً: إن أي تغير كبير في وضعية العاصمة طرابلس سيترتب عليه تغير مباشر في وضعية حكومة السراج، وهنا توجد عدة احتمالات، كأن يتم القبض على بعض أعضاء حكومة السراج وتحويلهم إلى محاكمات نظراً لتنازلهم عن سيادة البلاد والسماح باستقدام قوات أجنبية وتقديم الحماية لمجموعات إرهابية وسوء إدارة موارد البلاد. وغالبا قد يتمكن السراج وبعض معاونيه من الخروج براً أو بحراً من البلاد إلى جهة ذات ملمح إخواني كتركيا مثلاً أو ربما بلد أوروبي كان يعوّل على استمرار السراج كمدخل لاستمرار نهب الموارد الليبية.
سابعاً وأخيراً، تحرير طرابلس وإنهاء وجود حكومة الوفاق فعلياً بعد هروب عدد من أعضائها، من شأنه أن يؤثر مباشرة على طبيعة مهمة الأمم المتحدة في ليبيا ككل، كما سيؤدي مباشرة إلى إعادة النظر في الجهود المبذولة لعقد مؤتمر برلين لدفع عملية التسوية السياسية في ليبيا. وهو المؤتمر الذي يواجه عقبات كبرى حتى قبل أن تبدأ مهمة تحرير طرابلس، لا سيما الخلاف حول من يُشارك ومن يُستبعد من القوى الإقليمية والمجاورة لليبيا في المؤتمر، وفي طبيعة دور هؤلاء الذين سوف يشاركون، وما هي الضمانات التي يقدمونها لكي تنشأ عملية تسوية سياسية يقبلها الليبيون جميعاً ويدعمها المجتمع الدولي.
العناصر السبعة المشار إليها تصب في نتيجة واحدة، وهي أن التحرك العسكري للجيش الوطني الليبي، أياً كانت نتائجه ومداها الزمني والجغرافي، فقد وضع خطاً كبيراً بين مرحلتين في تاريخ ليبيا المعاصر.