علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

مكمن الخطأ في تعليل فازلا

لو علم يورغن فازلا أنَّ صلاح الدين المنجد قد احتفى بالقصيمي وبكتابه «العالم ليس عقلاً»، لما كان قال بالسبب الأول الذي دفع المنجد لكتابة دراسة معارضة للطبعة الجديدة لهذا الكتاب. وهو أن دراسة المنجد عن القصيمي كانت ردة فعل على «الدعم الحماسي الذي لقيه القصيمي في الصحافة اللبنانية الليبرالية». ذلك لأن احتفاء المنجد بالقصيمي وبكتابه «العالم ليس عقلاً»، في أول الأمر، قد أتى في سياق الدعم الليبرالي الحماسي في الصحافة اللبنانية الذي بدأ عام 1964.
إن مكمن الخطأ الأول في تعليل فازلا، أنه قيد تعليله بعام صدور دراسة المنجد عن القصيمي، وصدور كتابه «أعمدة النكبة: أسباب هزيمة 5 حزيران»، وصدور الطبعة الثانية من كتاب «العالم ليس عقلاً»، وهو عام 1967.
ومكمن الخطأ الثاني أنه في السبب الأول والسبب الثاني في تعليله، قدم فازلا، المنجد، بوصفه إسلامياً معادياً لليبرالية. صحيح أن المنجد ذو نزعة إسلامية، لكنه في نزعته هذه لم يكن معادياً لليبرالية، بل كان ليبرالياً في بعض نواحيه ومناحيه، وإن كان - كما قال عزيز العظمة عنه - في رده على رضوان السيد في جريدة «الشرق الأوسط»: ذو هوى «إخواني» في السياسة والثقافة، وإن كان «الإخوان المسلمون»، والإسلاميون عموماً - وهذا القول لي - قد اتكأوا على كتبه السياسية والفكرية الصادرة في ستينات القرن الماضي، وسبعيناته، في سجالاتهم مع الاشتراكية والقومية العربية والناصرية واليسار والشيوعية.
وهذه الليبرالية هي التي جعلته، على الرغم من نزعته الإسلامية، يشيد أول الأمر بالقصيمي وبكتابه «العالم ليس عقلاً».
والمنجد لم يبرز بصورة خاصة - كما اعتقد فازلا - كناقد للاشتراكية العربية، ابتداءً من عام 1967، بل برز بصورة الناقد للاشتراكية العربية، ولتجربة عبد الناصر، ولليسار وللشيوعية، قبل ذلك العام بأعوام.
ففي عام 1962، ألف كتابيه: «سوريا ومصر بين الوحدة والانفصال» و«اليمن والجمهورية العربية المتحدة بين الوحدة والانفصال». وفي عام 1965 ألف كتابه «التضليل الاشتراكي»، وفي عام 1966 ألّف كتابه «بلشفة الإسلام عند الماركسيين والاشتراكيين العرب».
هذه الكتب السياسية والفكرية، التي هي بعيدة كل البعد عن ميدان تخصصه، واهتمامه الأصلي، - وهو ميدان التراث - منذ أن بدأ في كتابة المقالات، وكتابة الأبحاث في المجلات الأدبية والعلمية، وتأليف الكتب، وتحقيقها، ابتداءً من أول العقد الرابع من القرن الماضي، شرع في تأليفها بعد انتهاء فترة عمله في معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية، الذي عمل مديراً له ثم مستشاراً به من عام 1955 حتى عام 1961، وانتقاله من القاهرة إلى الاستقرار في بيروت.
زبدة القول إن دراسة المنجد عن القصيمي ليس لها صلة بصدور الطبعة الثانية من كتاب القصيمي (العالم ليس عقلاً)، وليس لها صلة بإصدار المنجد كتابه «أعمدة النكبة: أسباب هزيمة 5 حزيران»، وإنما لها صلة مباشرة بـ«منشور» نشر عن مؤلفات القصيمي، وما كتب عنها في بيروت، الذي صدر في عام 1966.
فكارهو القصيمي في السعودية لم يعلموا أن المنجد قد احتفى بالقصيمي، وبكتابه «العالم ليس عقلاً»، بعد صدور طبعته الأولى عام 1963، لأنه كتبه في جريدة لبنانية يومية، هي جريدة «الحياة»، وإنما علموا به بعد قراءة واحد منهم، ذي مكانة أسرية كبيرة، لذلك المنشور المطبوع في كتاب، الذي اختير فيه من جملة ما اختير من أقوال في تقريظ القصيمي وكتبه، بعض ما قاله المنجد في القصيمي وكتابه «العالم ليس عقلاً» في طبعته الأولى. ولما علموا بهذا - كما حدثنا هو في مقدمة دراسته عن القصيمي - غضبوا منه، فأرسلوا إليه العتب واللوم.
وما لم يحدثنا به في مقدمة تلك الدراسة أنه بها استرضاهم، وأنه استعان بهم في هجومه المسف على القصيمي.
وإذا كان المنجد استغل أن احتفاءه بالقصيمي وبكتابه (العالم ليس عقلاً) - وهذا هو موقفه الأصلي من القصيمي وكتابه - نشر في جريدة يومية، فتلاعب بهذه الحقيقة، وقدمها بصورة مجزوءة، ومجتزأة، وكذب على القصيمي بأنه حرَّف ما قال عنه، وكتب ما لم يقل عنه في ذلك المنشور عن مؤلفاته، فإن القصيمي في ردين عليه، فرّط بتلك الحقيقة كاملة. فمدار الرد الأول كلام ساخر حلّق وجنح فيه. ومدار الرد الثاني صب اللعنة على النفط العربي.
إن القصيمي لو كان في ذينك الردين، أو في أحدهما، استحضر ما قاله عنه، وعن كتابه في «نسخته الأصلية والكاملة» في جريدة «الحياة»، وفند مباشرة الأغاليط التي ذكرها المنجد في الصفحة الأولى من دراسته عنه، لكان الرد أقوى وأجدى، ومحرجاً له، ومحرجاً لكارهيه.
أغاليط المنجد في الصفحة الأولى من دراسته عن القصيمي، كانت كما يلي:
قوله: «عندما صدر كتاب (العالم ليس عقلاً) كتبت عن القصيمي في جريدة (الحياة): إنه إما أن يكون عبقرياً أو مجنوناً»!
قوله: «وقد أعجبني ما كتبه يومئذ عن (الديكتاتور) في ذلك الكتاب، ولم أقرأ فيه سوى تلك الصفحات»!
قوله: «وأخذ القصيمي نفسه ما كتبته عنه وضمّنته في إعلان الكتاب، ثم حرفه وكتب ما لم أقل عنه!»!
قوله بعد أن أرسل كارهو القصيمي إليه اللوم والعتب: «وقد دفعني ذلك إلى معرفة القصيمي بنفسي، فلقيته وتحدثت إليه، ثم قرأت كتبه الأخيرة بإمعان».
يقول فازلا عن المنجد: «وبما أنه كان من الصعب أن يتهم القصيمي، الذي لم يكف في كتاباته عن مهاجمة الثورات وأنظمة الحكم الاشتراكية، بأنه يدعو إلى إقامة نظام اجتماعي شيوعي، ركز هجومه على تشابهات مزعومة بين النقد الديني للقصيمي والفلسفة المادية لماركس، فكلاهما دعيا إلى رفض الدين والوحي والنبوة والتخلي عن العقيدة. وكلاهما يعلل نكرانه للإله، بأن الكون قد نشأ من ذاته عبر عمليات وقوانين مادية إلخ..».
إن المنجد إلى أن أرسل كارهو القصيمي في السعودية إليه، اللوم والعتب في عام 1966، أو ربما في الأشهر الأولى من عام 1967 (دراسته عن القصيمي صدرت في الشهر العاشر من هذا العام) كان معجباً بالقصيمي، وبكتبه، لأنها تتضمن هجوماً على الثورات وأنظمة الحكم الاشتراكية، وليس لأنها متحررة فكرياً إلى حد المروق والزندقة. ولم يكن من الصعب عليه أن يتهم القصيمي بأنه استقى آراءه من كارل ماركس ومن الشيوعيين. فهو قد قال في دراسته عنه: «أعدت قراءة كتابه (هذا الكون ما ضميره) مرتين، وأصبح عندي كاليقين أن ما ملأ به صفحات الكتاب ما هو إلا ترداد لآراء ماركس والشيوعيين، وإن كان قد هاجم الشيوعيين من قبل»!
مع أن القصيمي هاجم الشيوعية في كتابه «هذا الكون ما ضميره»، وفي كتابه «كبرياء التاريخ في مأزق»، اللذين صدرا في عام 1966. وهاجمها في كتابه «العالم ليس عقلاً» الذي أعاد طباعته في عام 1967 في ثلاثة أجزاء هي: «عاشق لعار التاريخ» و«صحراء بلا أبعاد» و«أيها العقل من رآك»، ومع أن القصيمي فعل كل هذا، فإن المنجد لم يتحرج من إلصاق تهمة الشيوعية به، وادعاء أنه هاجم الشيوعية في فترة ماضية انفصل عنها بعد أن صار - كما لفق - يردد آراء ماركس والشيوعيين!
إن جملته التي قال فيها: «وإن كان قد هاجم الشيوعيين من قبل» يقصد بها كتابه «العالم ليس عقلاً»، في طبعته الأولى عام 1963، الذي صدر في جزء واحد قبل أن يتوسع فيه عام 1967، ويصدره في ثلاثة أجزاء.
المنجد، كما غيره من المثقفين في لبنان، يعلم أن القصيمي في نقده للدين كان نتشوياً، ولم يكن ماركسياً، ويعلم أنه كان معادياً لماركس وللشيوعيين، ومع هذا فقد ألصقه بماركس ولم يلحقه بنيتشه. لأن تهمة النيتشوية ليست بقدر سوء تهمة الشيوعية عند التيارات السياسية والفكرية المحافظة.
وللحديث بقية.