عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الخيال يتنبأ بالواقع

الواقع يقلد الخيال، والتعليم في الصغر كالنقش على الحجر.
تذكرت القولين المأثورين عقب أسبوع من تأمل ردود الفعل على الحادث المروع على جسر لندن وفي قاعة «فيشمونغورز». ثلاث ضحايا، أحدهم مرتكب الجريمة واثنان قتلهما طعناً، شاب وشابة من جامعة كمبريدج كانا يساعدانه وأمثاله من خريجي السجون على الإصلاح والعودة إلى الحياة العادية مواطنين صالحين.
تعطلت مصالح الناس وتكبدوا خسائر اقتصادية بسبب إغلاق البوليس المنطقة احتمالاً لوجود شركاء للمهاجم.
الحادث نفسه يبدو مسرحية من دراما اللامعقول.
المشهد الواقعي الوحيد كان التصرف التلقائي بشجاعة فائقة من جانب اللندنيين العاديين: طباخ بولندي وسائق تاكسي إنجليزي ومارة أسرعوا، مسلحين بمضخة إطفاء الحريق وناب حوت نادر كان معلقاً في معرض القاعة، لدفع المهاجم، عزمان خان. طرحوه أرضاً، ونزعوا سكينه، ليقتله البوليس بالرصاص خشية تفجيره حزاماً ناسفاً اتضح أنه مزيف.
العبثية في الحكاية أن خان كان يقضي عقوبة 16 عاماً في السجن بعد أن وجده القضاء المستقل، ورفاقه من المتطرفين، مذنباً بتهمة التخطيط لعمليات إرهابية هجومية.
استأنف خان الحكم، وكالعادة نجح المحامون الذين يستطيعون إقناع القضاة والمحلفين بسطوع الشمس في منتصف الليل في تخفيض مدة الحكم.
لجنة تقييم السجناء أفرجت عنه بعد قضاء نصف المدة المخفضة.
انضم خان إلى برنامج ترعاه جامعة كمبريدج لإعادة تأهيل السجناء وإصلاحهم، وكان أيضاً ضمن مجموعة مشاركين في ندواتهم.
تحايل على جهة مراقبة تحركاته للسفر بلا إذن من بلده الذي يبعد أميالاً عن العاصمة، وحضر المؤتمر برعاية الجامعة لتأهيل خريجي السجن، بصفته نظف عقله من الإرهاب القاعدي والداعشي.
ومن سخرية شر البلية غياب تفتيش الحقائب عند المدخل، أو تشغيل جهاز كشف المعادن، رغم أن معظم الحضور كانوا ممن قضوا عقوبة جرائم متعددة، بينها العنف والإرهاب.
وهنا، يحضرني القول عن الواقع الذي يقلد الخيال.
للكاتب الإنجليزي الراحل إيفلين واه (1903 - 1966) رواية تتضمن خلافاً بين مدير سجن ليبرالي ووزير الداخلية الذي يرى أن السجن يجب أن يكون جحيماً، كعقوبة تجعل تفكير المجرم في زنزاناته رادعاً عن ارتكابه الجريمة؛ المدير الجديد يراه إصلاحاً وتهذيباً وإعادة تأهيل.
في تجربته على تهذيب المساجين لإصلاحهم، يختار المدير الليبرالي أخطرهم، قبض عليه لتكرر اعتداءاته على راقصات وغانيات. السجين يهذي بأن أصواتاً من السماء ترشده إلى مهمة مقدسة لإصلاح الناس الذين فشلت الأديان في هدايتهم، ويردد أن الأصوات السماوية تأمره بقتل كل من لا يتبع تعاليم الله، وأنه مجرد منفذ لإرادة السماء.
جهز المدير الليبرالي برنامجاً من عدة جلسات يحادث فيها السجين المتطرف عن الفلسفة والأفكار التنويرية والموسيقي والأدب، ويكتشف أن الرجل قبل أن تغزو الأصوات السماوية أسماعه كان يعمل نجاراً. هنا، يفكر مدير السجن الإصلاحي: هذا رجل اختل توازن عقله لحرمانه من ممارسة موهبة الإبداع اليدوي، ويقرر أن يوفر له أدوات النجارة لإعادة موهبته إليه. وكان أول إبداعات السجين النجار الفنان استخدام منشاره لقطع رأس داعية السجن الذي أرسلته الكنيسة لمحاولة تخفيف المعاناة النفسية للسجناء.
الكاتب الراحل، قبل تسعين عاماً من تقليد الواقع لروايته، كان يرسم صورة ساخرة عن أفكار وبرامج رؤية الساسة والطبقة الحاكمة، والخبراء الذين يوظفونهم لابتكار ما يرونه أفضل الوسائل لإصلاح المجتمع ومعالجة مشكلاته.
وهنا، يحضرني القول: «التعليم في الصغر كالنقش على الحجر».
الصغر في حالة برامج تأهيل المتورطين في الأعمال الإرهابية يعني البحث عن البداية؛ المرحلة التي تحول في أثنائها الـ«belief-system» أو «التأسيس العقائدي» في العقل إلى الآيديولوجيا الجهادية المتطرفة.
وإذا تصورنا أن العقل مثل كومبيوتر معقد، فإن التأسيس العقائدي مثل «السوفتوير» لنظام التشغيل (وليس البرامج)، مثل: «إم إس دوس» أو «ويندوز»، أو آبل «آي أو إس»، فبلا تغيير نظام التشغيل نفسه لا يمكن تحديث البرامج إذا كانت قد ابتكرت في وقت وزمن أحدث من تأسيس نظام التشغيل.
محاولة إصلاح الجهاديين بعد السجن، أو إعلانهم التوبة من تنظيم «داعش» وأمثاله، هي مثل محاولة إدخال برامج جديدة على نظام تشغيل قديم. ولا أمل في الإصلاح بلا العودة ذهنياً - بطرق كثيرة، أهمها التحليل النفسي - بالسجين إلى الأيام، وربما الساعات الأولى، التي برمج فيها عقله ليتحول إلى متطرف أو مشروع إرهابي، وبدأ إعادة تحميل برنامج التشغيل.
نجح البعض في هجرة التنظيمات، فعلياً وذهنياً، بإرادتهم في بريطانيا، لكنهم أقلية، والأغلبية يحيط بهم الغموض، بينما يتلقون الدعم من المنظمات والجمعيات الممولة من الدولة والمؤسسات الخيرية؛ كل منظمة تدعي أن برنامجها هو الأفضل في الحماية من التطرف.
نجاح برنامج المملكة العربية السعودية في إعادة تأهيل المتطرفين وإصلاحهم يفوق أرقام مثيلاته البريطانية. هناك ظروف وعوامل وخبرات إنسانية وتخطيط جعلت من برنامج السعودية أكثر نجاحاً.
السواد الأعظم من مسلمي بريطانيا من شبه القارة الهندية لا يفهمون العربية، حتى القرآن بالنسبة لهم آيات للصلاة لا يعرفون كيف يفسرون معانيها بأنفسهم، وأكثرية المدانين بالإرهاب ليسوا من العرب، وحتى الساسة المسلمون والقائمون على هذه البرامج هم أيضاً من شبه القارة الهندية.
وفي السعودية، المجتمع إسلامي، والجميع يتحدثون لغة واحدة، والحوار الذي يؤدي إلى محاولة كشف نقطة التحول يتم مع متخصصين وفقهاء في الدين واللغة العربية، وهذا غير متوفر بالعمق والكثافة نفسيهما هنا في بريطانيا.
الأهم الخبرة التي يفتقدها «الخبراء» في بريطانيا. القائمون على البرنامج في السعودية يستطيعون كشف ما إذا كان الجهاديون في برنامج التأهيل يختفون وراء «التقية»، ويدعون كذباً أن الله هداهم إلى الصراط المستقيم.
طوال الأسبوع، منذ حادثة لندن، يتحدث الخبراء والساسة ومدعو التخصص في «القاعدة» و«داعش» والإرهاب عن تحليلاتهم العميقة جداً، ولا ذكر لمرة واحدة لكلمة «التقية»، كوسيلة خدع بها خان وأمثاله اللجنة التي منحته الإفراج.
عندما استدعت لجنة برلمانية في مجلس العموم ممثلي جماعة «الإخوان المسلمين» في بريطانيا قبل ثلاثة أعوام لتقصي الحقائق، تستروا وراء التقية، وأجابوا عن الأسئلة ليس «بما يرضي الله»، وإنما بما طربت له أسماع اللجنة، وبدوا وكأنهم اخترعوا المساواة. قالوا إنهم في الحكم يعترفون بحقوق الإنسان الأوروبية، بما فيها زواج المثليين، وإنهم سيلغون عقوبة الإعدام، ويطبقون المساواة بين المسلمين وغيرهم. اللجنة لم تقرأ برامجهم، أو محاضر نوابهم في البرلمان المصري، أو تاريخ اغتيالاتهم وقنابلهم؛ ادعوا أنهم لا يتقنون الإنجليزية، وأحضروا مترجماً بريطانياً خريج قانون متخصصاً بالعلاقات العامة، ومن أسرة تنتمي لفرع الجماعة في فلسطين!