خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

كلمات عكس معانيها

من المثير للسخرية أن كثيراً من «العناصر المحلية الداعمة» في الإعلام تحمل اسم «عربي»، من عربي بوست إلى العربي وعربي 21. الرسالة - ليست دائماً - معروفة من عنوانها. العنوان ربما يصاغ عمداً بقصد التضليل.
إلا أن يكون هذا نموذج العربي الأمثل بالنسبة لجماعات العروبيين والإسلاميين الحاليين، مؤيداً للأتراك وعاملاً من أجل مصالحهم، في ليبيا ومصر والخليج وسوريا، بلا أدنى إحساس بخجل. وهم يقولون هذا صراحة، على لسان يوسف القرضاوي، على لسان لجانهم الإلكترونية المشغولة بالدفاع عن الأتراك تاريخاً وحاضراً، على لسان مقدمي البرامج المنطلقة من إسطنبول والدوحة ولندن، على مواقعهم على «السوشيال ميديا»، وعلى لسان «المجاهدين» الذين يقتلون السوريين لتمهيد الطريق للخليفة.
والمطلوب من النموذج ليس الاقتداء بتركيا، كما يفهم من الكلمة، بل التبعية لها. هؤلاء لا يحثون دولهم على حيازة عناصر القوة اقتصادياً وعسكرياً المسموح بها لتركيا، بل هي حلال لتركيا فقط. بينما وظيفة هذا «العربي» أن يمنع دولته من امتلاك أي منها.
تركيا تحصل منافع كبيرة من «الولاء للكفار»، تركيا لديها علاقات مع إسرائيل، وعضو في حلف الناتو، وتستضيف قواعده على أرضها. تركيا دولة منفتحة سياحياً، شواطئها ليس فيها أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر، وتبيع الخمور.
بينما الدعاية في دول المنطقة الأخرى، من نفس تابعي تركيا، تلزمك بـ«البراء من الكفار» (كما يسمونهم). حتى أبسط شيء، السياحة، مسموح لتركيا بالانفتاح فيها، والاستفادة من الوجه الإعلامي الذي تقدمه عن نفسها بهذا الانفتاح، أما دول المنطقة الأخرى، فالإسلام المستخدم للدعاية لتركيا، هو نفسه المستخدم لغلق المنافذ على الدول «العربية»، ومطاردة السياح فيها، للإيحاء بأن تلك الدول غير آمنة لا لسياحة ولا لاستثمار.
نحب أن نصف أنفسنا بأننا اجتماعيون، في حين أن الغرب - والعياذ بالله - يعيشون في الحي الواحد، والبناية الواحدة، كالغرباء. لا يقول واحدهم للآخر صباح الخير.
لكن الحقيقة أننا أبعد ما يكون عن كلمة «اجتماعي» بمعناها المقصود في العلاقات بين أفراد البلد. ومن يظنون أننا «اجتماعيون» يخلطون بين السلوك المجتمعي المطلوب في المجتمع الحضري الحديث، وبين نظيره الموجود في الريف. هذا الأخير سلوك عائلي أو عشائري أو قبلي.
السلوك المجتمعي هو سلوك مجموعة من الأفراد الغرباء، الذين تجمعهم السكنى في جوار واحد، أو بقعة جغرافية واحدة، والذي يتميز بشيئين رئيسيين.
أولاً: التعاونية.
ثانياً: مراعاة الأفراد الآخرين، بعدم التعدي على مساحتهم الخاصة، وعدم تخريب الحيز المشترك الذي يجمعك بهم أو محاولة الاستئثار به.
إن كنت تقصر التعاون واحترام الآخرين على عائلتك أو من ينضوي تحت كيان يحل محل هذه العائلة، فهذا سلوك «عائلي»، مبني بالأساس على صلة الدم، وعلى الدور الرقابي للعائلة. أنت تحسن السلوك مع هذا لأنه ابن عمتك، ومع تلك لأنها ابنة عمك، ومع ابن العائلة الغريبة لأنها تعرف عائلتك، والغلط مردود بين العائلتين اللتين تعرف إحداهما الأخرى.
السلوك الاجتماعي في المجتمعات الحديثة وجد بالذات لكي يحل محل هذا السلوك العائلي. حيث المجتمعات الحديثة تتكون من أفراد غرباء يتجاورون في السكنى. في تجربة لم تعرفها البشرية قديماً إلا في مراكز حضرية قليلة جداً. بينما الأغلبية الكاسحة معتادة على أن يتجاور في السكنى فقط من تجمعهم صلة الرحم، بالعائلة، أو العشيرة، أو حتى القبيلة.
السلوك الاجتماعي يظهر في التعاون لتركيب دش مركزي واحد في البناية، بدلاً من غابة من أطباق الاستقبال. هذا تداخل في المصالح يلزمه تنسيق بين غريبين من أجل غرض مشترك. وبالمثل، السلوك الاجتماعي يظهر أيضاً في احترام المساحة الخاصة. إن وقفت عند شباك البنك، أو ماكينة سحب النقود، ينبغي على غيرك من أفراد المجتمع أن يخاصموك قليلاً، فيعطوك مساحة للحركة بخصوصية. العشم الزائد في موقف كهذا ليس سلوكاً اجتماعياً ودوداً، بالنسبة للحضر، بل حشرية منفرة.
أزمتنا مع الحياة الحضرية أزمة جذرية. لأنها تبدأ من صياغتنا للكلمة التي تحتويها.
لفظة «سيتي» واشتقاقاتها مثل «سيتيزن» و«سيتيزنشيب»، وهي ما يصف العناصر الأساسية في الحياة الاجتماعية المعاصرة، مكان السكن والفرد المواطن والمواطنة، كلها مشتقة من مفهوم واحد هو الوطن. أي استيطان مكان محدد من الأرض والانتماء له. مفهوم الوطن والمواطن والمواطنة مناسب تماماً لطبيعة الحياة المعاصرة، حياة الغرباء المتجاورين. ومناسب أيضاً لقيم الدولة الحديثة، حين المواطنون جميعاً على قدم المساواة بالسكنى والانتماء إلى الوطن، بغض النظر عن أرحامهم، أو ألوانهم، أو دينهم.
«السيتي» تحكمها المواطنة، كل مواطن مساوٍ في حقوقه للمواطن الآخر. المدينة هي التي يحكمها الدين، ويقسم السكان درجات حسب انتماءاتهم الدينية.
بترجمة «سيتي» إلى مدينة لم نضيع المعنى التطوري فحسب، بل أحلناه إلى عكسه... بناء الدولة الحديثة يحتاج إلى بناء لقيمها بدءاً من الألفاظ.