ميشال دوكلو
السفير الفرنسي السابق في سوريا
TT

هل تنقذ قمة لندن «الناتو» من «الموت الدماغي»؟

يحتفل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التحالف الأكثر نجاحاً في التاريخ، في الرابع والخامس من ديسمبر (كانون الأول) من العام الحالي، بالذكرى السنوية السبعين في لندن. وربما لا تكون لفظة «الاحتفال» هي أفضل ما يمكن به توصيف الواقع الراهن للحلف، إذ هناك الكثير من القتامة والكآبة تحيط بالقمة الدولية المزمع انعقادها لرؤساء مختلف الدول والحكومات من أوروبا، والولايات المتحدة، وكندا، وتركيا.
كان معروفاً قبل عدة أشهر، أنه ربما تكون هناك صعوبات تكتنف محاولات العثور على أرضية مشتركة بين الحلفاء. ولا يُخفي الرئيس الأميركي دونالد ترمب استياءه البالغ إزاء حلف الناتو، فضلا عن استيائه الواضح حيال الاتحاد الأوروبي. وهو يعتقد أن بلاده تنفق الكثير من الأموال للإسهام في الدفاع عن البلدان الأوروبية التي يعتبرها غنية للغاية وبدرجة كافية لتولي مهام الدفاع الذاتي عن النفس مما يجعلهم – من وجهة نظره – من المنافسين غير المنصفين للولايات المتحدة على صعيد التجارة. ومعروف عن الرئيس الأميركي تلاعبه ببطاقة انسحاب الولايات المتحدة من عضوية حلف الناتو بين الحين والآخر. وفي أول قمة لبلدان الحلف بعد توليه رئاسة الولايات المتحدة، قبل عامين، أبدى السيد ترمب ترددا كبيرا في ذكر المادة الخامسة من ميثاق الحلف، وهي المادة المعنية بالتزام الولايات المتحدة الدفاع عن الأعضاء الآخرين في الحلف إذا ما تعرضوا للهجوم. وعلاوة على ذلك، شرع السيد ترمب في حملة شعواء للحصول على زيادة في الإنفاق العسكري من الحلفاء في أوروبا – وأغلبهم على استعداد لتوفير الأموال على خلاف ألمانيا، القوة الاقتصادية الأولى في القارة العتيقة.
أما الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، فلا يزال يواصل تحدي الرابطة القوية ما بين الدول الحلفاء. وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، أرسل الرئيس التركي قواته إلى شمال شرقي سوريا في مواجهة قوات الأكراد السوريين، الذين كانوا ولا يزالون يعتبرون رفقاء السلاح في حرب تنظيم داعش الإرهابي مع القوات الأميركية، والفرنسية، وبعض من أعضاء حلف الناتو كذلك. ومن دون مشاورة مع أي طرف من الأطراف المعنية، أعطى الرئيس ترمب الضوء الأخضر إلى الرئيس التركي في شن الهجوم العسكري، ما سبب هزة شديدة بين ربوع الإدارة الأميركية ذاتها، وقلقا عميقا لدى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وتلك هي الخلفية التي أجرى الرئيس الفرنسي على إثرها المقابلة الشخصية الشهيرة (أو ربما سيئة السمعة) مع مجلة «إيكونيميست» في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري. ومن واقع استخلاص الأحداث التي وقعت في شمال شرقي سوريا، أعلن الرئيس الفرنسي عن «وفاة الناتو دماغيا». كما أوضح نقطة مفادها أنه أيا كان الرئيس الذي سيدخل البيت الأبيض اعتبارا من العام المقبل، هناك حقيقة واحدة جلية هي أن أوروبا لم تعد ذات أهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وبالتالي، ووفقا لرأي الرئيس الفرنسي: «لا بد أن نعيد تقييم واقع حلف شمال الأطلسي في ضوء التزامات الولايات المتحدة إزاء الحلف».
ولا يمكن فصل تصريحات الرئيس ماكرون عن «حلف الأطلسي» وجعلها بمعزل عن رؤيته بشأن مصير أوروبا من جهة، وطبيعة العلاقات مع روسيا من جهة أخرى. ويعرب الرئيس الفرنسي عن أسفه الشديد أن أصبحت أوروبا غير متواكبة ولا متزامنة مع التاريخ، مع حالة بائسة من الرضا عن الذات، وفقدان القدرة بشكل خطير على مواجهة تحديات منطقة اليورو المنهكة، مع مشكلات الهجرة، وصعود الأنظمة السلطوية، ومخاطر التغييرات المناخية أو احتمالات تهميش الاتحاد الأوروبي في خضم الصراع القائم بين الولايات المتحدة والصين. ويصر الرئيس الفرنسي، الذي أظهر قدرة مثيرة للإعجاب إلى درجة ما على تناول مجموعة متنوعة من القضايا ذات الأهمية بطريقة واضحة ودقيقة، على حاجة الأوروبيين إلى تعزيز مواقفهم إزاء «الاستقلال الاستراتيجي»، بمعنى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة في القدرات الدفاعية، وعلى «السيادة التكنولوجية»، بمعنى ضرورة مواجهة التوغل الصيني الواضح فيما يتعلق بشبكة الجيل الخامس فضلا عن احتكار الشركات الأميركية التقنية الأربعة العملاقة لأسواق التكنولوجيا حول العالم.
أما بالنسبة إلى روسيا، يدافع الرئيس الفرنسي عن فكرة أن أوروبا في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في العلاقات الاستراتيجية التي تربطها مع روسيا. وهو يعتقد أنه إذا كنا نريد بناء السلام في أوروبا ونعيد بناء الاستقلال الاستراتيجي، فإننا في حاجة إلى إعادة النظر في موقفنا تجاه روسيا. وكانت مقابلة الرئيس الفرنسي مع مجلة «إيكونوميست» طويلة. وهي تشتمل على التطورات بشأن روسيا من التي سيعتبرها الكثير من المراقبين أو المشتغلين بشؤون السياسة الدولية ساذجة للغاية. وفي بعض القضايا، مثل «الربيع العربي»، اقترب الرئيس الفرنسي للغاية من الرواية الروسية المقررة بشأنه، ويعزو مسألة زعزعة استقرار بعض البلدان في الشرق الأوسط، على سبيل المثال، إلى تدخلات القوى الغربية في الشؤون الداخلية.
كيف تلقى المراقبون المقابلة الشخصية مع الرئيس الفرنسي؟ بالنسبة إلى أغلب المعلقين الفرنسيين، كان الرئيس ماكرون يقول بكل بساطة إن «الإمبراطور كان عاريا» (مثل الطفل في حكايات هانز كريستيان أندرسون). كان وصفا وقحا بعض الشيء، ولكنهم رحبوا به من واقع أنه دعوة للاستيقاظ. وبالنسبة للألمان والبولنديين، والعديد من المراقبين الأوروبيين الآخرين، اصطدمت لغة الرئيس الفرنسي بالعديد من النقاط العصيبة. وأعلنت المستشارة أنجيلا ميركل على الفور أن تقليص دور حلف الناتو في الأمن الأوروبي أمر غير وارد على الإطلاق. حتى وإن حاول ماكرون أن يتلمس قدرا من الواقعية البسيطة بشأن الحالة الراهنة لـ«حلف شمال الأطلسي»، اعتبره البعض تجسيدا جديدا للشيطان الديغولي الذي يهدف إلى إضعاف الحلف عبر المحيط الأطلسي مع تعزيز الاستقلال الاستراتيجي الخالص للاتحاد الأوروبي الذي يعتبره أغلب الأوروبيين الآخرين محض وهم وخيالات. وكانت الدعوة لإعادة تقييم العلاقات مع روسيا مثيرة للإزعاج بشكل خاص بالنسبة لجيران روسيا الحدوديين: فلقد كانت الأولوية من وجهة نظرهم تتمثل في ضمان الأمن بصورة أفضل في مواجهة روسيا وعدم محاولة تحسين الحوار مع الجانب الروسي.
يفضل الرئيس الفرنسي الاستعانة بالمقاربات التخريبية التي خدمته بصورة جيدة للغاية في الماضي. وهو يواجه مجازفة كبيرة من خلال استعداء شركائه في أوروبا: فقد يصعب عليه بسبب ذلك الوصول إلى إجماع مبدئي للآراء بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك التي أثارها من خلال حديثه إلى «إيكونوميست». وهنا تكمن المفارقة: إذ بات يُنظر إلى إيمانويل ماكرون، في خضم الظروف الراهنة، على اعتبار أنه الزعيم الطبيعي لأوروبا. وهو أيضا الرجل الذي يريد تحقيق النتائج بأسرع وتيرة ممكنة. وربما يتعاطف المرء من إحباطه من الوتيرة البطيئة للغاية التي تتقدم بها الأمور في أوروبا – ومن واقع الازدراء الذي بدا من الرئيس الأميركي حيال الحلفاء في أوروبا. والسؤال المطروح هو: كي تكون قائدا، ألا يتعين عليك الاهتمام ببعض الشواغل وربما المخاوف التي تساور أولئك المستعدين للانضواء تحت رايتك؟
وفي أعقاب مقابلة إيمانويل ماكرون الشخصية، حاولت بعض الشخصيات الدبلوماسية بذل الجهود من أجل تحسين الأوضاع قبل انعقاد قمة لندن المرتقبة. إذ وافقت كل من فرنسا وألمانيا على الاقتراح بإنشاء مجموعة من الحكماء يعملون على إعادة تعريف مهام «حلف شمال الأطلسي». وهناك مناقشات بشأن ترتيب اجتماع يجمع كلا من إيمانويل ماكرون، وأنجيلا ميركل، وبوريس جونسون مع الرئيس التركي إردوغان على هامش قمة الناتو المقبلة. وفي خضم نفس الجهود، استقبل الرئيس الفرنسي الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبيرغ في قصر الإليزيه في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري. وفي حديثه إلى الصحافة، تخير الرئيس الفرنسي كلماته بكل عناية بغية تهدئة المشاعر والتوترات في أوروبا الوسطى. ومع ذلك، فلقد ضاعف من تشخيصه الذاتي بشأن حلف الناتو. وقال إنه لا يمكن اعتبار روسيا أو الصين من الأعداء الحقيقيين. والحلفاء، كل الحلفاء، كما قال الرئيس الفرنسي، يتكاتفون الآن للحرب ضد عدو واحد مشترك، ألا وهو: الإرهاب. وكان الاجتماع مع الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي قد انعقد بعد مرور أيام قليلة على خسارة الجيش الفرنسي 13 جنديا في مالي إثر سقوط طائرة مروحية كانت تقلهم. وفي مواجهة السؤال التقليدي من حيث «تقاسم التكاليف»، أجاب الرئيس الفرنسي بكل صراحة أنه سيكون من الأفضل التحدث عن «تقاسم الدماء»، مذكرا أنه في خضم الحرب على الإرهاب، كانت الأمة الفرنسية تسدد ثمنا باهظا للغاية مقارنة بغيرها من البلدان. كما أنه أشار إلى أن هذه الحادثة الأخيرة في مالي من شأنها أن تقود السلطات الفرنسية إلى استعراض ومراجعة سياسات التدخل العسكري الخارجية، مما يعني أن كافة الخيارات سوف تكون مطروحة للمناقشة.
وبالنظر إلى التطورات الأخيرة، لا يمكننا استبعاد أن تفتح فرنسا في عهد إيمانويل ماكرون جبهة جديدة مع حلفائها. فالشعب الفرنسي مستاء للغاية مما يعتبره المشاركة الضئيلة للغاية من جانب البلدان الأوروبية الأخرى في أزمة مالي. ومن بين أسباب الشجار المتعددة والمتوقعة في قمة الحلف المقبلة هو المطلب الفرنسي بإعادة موازنة أولويات الترتيبات الأمنية في أوروبا: بأن تكون عند حدها الأدنى في اتجاه التهديدات بعيدة المنال إلى الشرق (ونقصد روسيا)، وأكثر اهتماما بالتهديدات الحقيقية الماثلة إلى الجنوب، أي الحرب على الإرهاب.

*السفير الفرنسي الأسبق في سوريا
*خاص بـ«الشرق الأوسط»