علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

ورع زائف أمام كارهي القصيمي

يعنى سليمان الخراشي كثيراً في كتابه (عبد الله القصيمي: وجهة نظر أخرى!) بوضع حواش يستدرك فيها على ما نقله من نصوص لآخرين في كتابه إما معلوماتياً وإما من زاوية إسلامية مغالية ومتطرفة، إلا أنه في النص الذي اقتبسته في المقال السابق من كلام قاله صلاح الدين المنجّد عن القصيمي، والذي نقلته من كتابه - كتاب الخراشي - لم يصحح أي معلومة فيه مع علمه بخطئها.
يقول المنجّد: «وأتبع القصيمي مؤلفه الأول بمؤلف ثانٍ أراد أن يتحدى به الأزهر وعلماءه جميعاً سماه (الصراع بين الإسلام والوثنية) صدر في ثلاثة أجزاء بلغت ألفين وخمسمائة صفحة».
الخراشي يعلم أن هذه المعلومات معلومات خاطئة، والدليل أنه يعلم بهذه الببليوغرافيا التي وضعها لكتب القصيمي. ففي هذه الببليوغرافيا، الكتاب الذي ذكره المنجّد هو الكتاب السابع وليس الكتاب الثاني للقصيمي. الكتاب الثاني، كان (شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام). والكتاب الثالث كان (الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم). والكتاب الرابع كان (مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها). والكتاب الخامس كان (نقد كتاب حياة محمد). والكتاب السادس كان (الثورة الوهابية).
وفي هذه الببليوغرافيا هذه المعلومة: «الصراع بين الإسلام والوثنية، مجلدان (المجلد الأول، المطبعة السلفية، عدد الصحفات: 715ص، والمجلد الثاني، مطبعة السعادة، عد الصفحات: 895ص)، 1937 - 1939».
أي أن الكتاب بحسب المعلومة الواردة في الببليوغرافيا التي وضعها الخراشي لكتب القصيمي صدر في جزأين، ومجموع صفحاته 1610 صفحة، وليس في ثلاثة أجزاء، ولم تبلغ عدد صفحاته ألفين وخمسمائة صفحة، كما قال بذلك المنجّد.
في معلومة الخراشي ما يشير إلى أن الجزء الأول من ذلك الكتاب، قد صدر في عام 1937، وأن الجزء الثاني قد صدر في عام 1939. وذهب إلى مثل هذا قبل الخراشي يورغن فازلا في هامش في كتابه (من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق عبد الله القصيمي) أحال فيه إلى ذلك الكتاب عند حديثه عنه.
تلميذه وصفيه وصديقه إبراهيم عبد الرحمن قال بمعلومة مختلفة قليلاً عنهما. وهي أن الجزء الأول والجزء الثاني صدرا في عام واحد، وهو عام 1937، وأن الجزء الأول بلغت عدد صفحاته 736صحفة. وأن الجزء الثاني بلغت عدد صفحاته 916 صفحة. وقال أيضاً: «وقد كتب القصيمي الجزء الثالث من كتاب (الصراع بين الإسلام والوثنية) في عام 1938، ولكن لم يكتب لهذا الجزء الصدور، لا وقتها ولا عند إعادة طبع الجزأين الأول والثاني، وبقي حتى الآن طي الكتمان». وهذا يعني أن وهم المنجّد بأن كتاب القصيمي (الصراع بين الإسلام والوثنية) قد صدر في أجزاء ثلاثة له أصل، فهو يعلم أن الجزء الثالث كان قد أنجز لكنه لا يعلم بأنه لم يصدر في كتاب.
يعلم الخراشي حق العلم ما أصل كتاب القصيمي (الصراع ين الإسلام والوثنية) وما مناسبة تأليفه، وقد ذكر هو في كتابه أصل هذا الكتاب ومناسبة تأليفه، ومع هذا قبل بكلام المنجّد الذي زعم فيه أن القصيمي أراد بكتابه هذا أن يتحدى به الأزهر وعلماءه جميعاً.
المنجّد يعلم أيضاً ما أصل الكتاب وما مناسبته لكنه زيف في هذا الأمر لغرضين:
الغرض الأول، أن هذا التزييف يخدم تحليله النفسي المتكلف، وهو أن القصيمي خضع وحرّكته عقد نفسية، والعقدة النفسية المتأخرة التي خضع لها وحرّكته يمكن أن نسميها «عقدة الأزهر» أو» العقدة الأزهرية». فهذه العقدة عند المنجّد تتكون من مستويين: المستوى الأول (عقدة الطرد)، وهو أن يطردك الأزهر من الدراسة فيه، وهذا ما حصل للقصيمي، فكان هذا الطرد - كما قال المنجّد - «من العوامل الأولى التي دفعت القصيمي لازدراء الأزهر ورجاله، ثم دفعته فيما بعد للتحول عن نهج الدين، كما وقع لطه حسين»!
المستوى الثاني، هو (عقدة الإهمال) بعد أن تطرد من الأزهر تؤلف كتاباً، فلا يلتفت الأزهر إليه ويهمله. وذلك ما حصل للقصيمي حينما ألّف كتابه (الصراع بين الإسلام والوثنية) بحسب ادعاء المنجّد.(عقدة الإهمال) دفعت القصيمي - كما قال المنجّد «إلى ثورة (عاقلة)، نظر فيها أسباب انحطاط المسلمين أو (كيف ذلّ المسلمون) أخرجها في كتاب (نفّس) فيه عن نفسه».
ما قاله المنجّد في (عقدة الإهمال) أو التي قال عنها إن عقدة القصيمي النفسية الجديدة متناقضة جداً. فإذا كان القصيمي - كما زيف - أراد أن يتحدى بكتابه (الإسلام والصراع بين الإسلام والوثنية) الأزهر وعلماءه جميعاً، فكيف ينتظر من علماء الأزهر أن يلتفتوا إلى كتابه ويوفوه حقه من التقدير!
الغرض الثاني: أن تزييفه يرفع الحرج عنه في أن يذكر أن كتاب القصيمي هو رد على كتاب الإمام محسن الأمين العاملي (كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب). والحرج يكمن في أنه صهر لعائلة شيعية معروفة في لبنان. ومما يؤكد هذا الظن أنه قدم كتاب القصيمي بكلام عمومي مجّده فيه، ولم يكشف عن فحوى الكتاب. وفحوى الكتاب - كما قلت في مقال سابق – كانت محاولة لنقض عقيدة الشيعة.
يقول المنجد عن القصيمي: «تزوج فتاة مصرية، فلم يوفق، على قوله في زواجه منها، ولدت له ابنا».
قال المنجد هذا القول إتماماً لحديثه عما سماه عقدة الفشل عند القصيمي، وقد تصدى إبراهيم عبد الرحمن لهذه الفرية ورد عليها بقوله: «المعروف أن القصيمي وقت صدور كتاب الدكتور المنجد كان سعيداً في زواجه الذي استمر حتى وفاة زوجته، وكان قد أنجب منها وقتئذٍ ذكرين وفتاتين غير الذين توفاهم الله وهم صغار».
لم يصحح الخراشي معلومات المنجد التي قالها عن القصيمي، وتعمّد التزييف فيها، مع علمه بخطئها، وبأنها متضاربة مع ما جاء في كتابه من معلومات عن القصيمي؛ لأنه كان شديد التحامل عليه إلى الحد الذي يقبل أن يمرر التلفيق عليه إذا ما كان مسيئاً له.
يعتقد يورغن فازلا - وإن بغير جزم- أن «الدعم الحماسي الذي لقيه القصيمي في الصحافة اللبنانية الليبرالية هو الذي دفع صلاح الدين المنجد إلى كتابة دراسة معارضة للطبعة الجديدة لكتاب (العالم ليس عقلاً) في عام 1967».
والسبب الثاني الذي لا يخلو من الجزم هو قوله: المنجّد «برز بصورة خاصة كناقد للاشتراكية العربية. في عام 1967 اتهم العرب في كتاب لقي كثيراً من الاهتمام بأن ابتعادهم عن التقاليد الإسلامية وتحولهم إلى آيديولوجيات هما السبب في هزيمتهم العسكرية أمام إسرائيل التي تستمد شرعيتها من الدين».
وهذا الدور الرائد للمنجد كمحارب لجميع (الآيديولوجيات الكافرة) جعله يصنف القصيمي ضمن التيارات الفكرية التي يرى أنها تشكل أكبر الخطر على الحضارة الإسلامية. وبما أنه كان من الصعب أن يتهم القصيمي، الذي لم يكف في كتاباته عن مهاجمة الثورات وأنظمة الحكم الاشتراكية، بأن يدعو إلى إقامة نظام اجتماعي شيوعي، ركز هجومه على تشابهات مزعومة بين النقد الديني للقصيمي والفلسفة المادية لماركس، «فكلاهما دعا إلى رفض الدين والوحي والنبوة والتخلي عن العقيدة».
لآتي بالتفسير الصحيح سأصوغ سؤالاً مقلوباً أستند فيه إلى ما قاله فازلا في سببه الثاني. هذا السؤال هو: ما الذي جعل المنجد يصنع دراسة عدائية وعدوانية عن القصيمي مع أنه هو والقصيمي في جبهة سياسية فكرية واحدة، وهي مهاجمة الثورات وأنظمة الحكم الاشتراكية؟
وأتبعه بسؤال آخر أستند فيه إلى معلومة يبدو أن فازلا لا يعلم بها أو أنه لم يقف عندها كثيراً. هذا السؤال هو: لماذا هاجمه بعنف في تلك الدراسة بعد أن مدح كتابه (العالم ليس عقلاً) بسخاء، فقال في جريدة (الحياة): «إنه كتاب قل أن تخرج المطابع مثيلاً له. وإن مؤلفه في سطوع أفكاره وعمقها وجدّتها لعبقري فذ. وإنه لو صدر في بلد مزدهر فيه الفكر لضجت الصحف بدراسته والنقل عنه»؟
ولأن المنجِّد كان قد مدح كتاب القصيمي (العالم ليس عقلاً) بهذا المدح كان لا بد له، وهو يخرج دراسة هجومية عنه، أن يسوِّغ ما اقترفه قلمه من مدح سالف له ولكتابه المذكور. فقال في أول سطور دراسته عنه: «عندما صدر كتاب (العالم ليس عقلاً) كتبت عن القصيمي في جريدة (الحياة): إنه إما أن يكون عبقرياً أو مجنوناً.
وقد أعجبني ما كتبه يومئذ عن الديكتاتور في ذلك الكتاب، ولم أقرأ فيه سوى تلك الصفحات (!)، وكان القصيمي يفتخر في أحاديثه أنه يقصد بما كتب رئيساً معروفاً من رؤساء الدول العربية.
ولقيت كلمتي هذه صدى كله رضا عند المعجبين بالقصيمي؛ فأرسلوا إلي الشكر، وأخذ القصيمي نفسه ما كتبته عنه وضمنه في إعلان عن الكتاب، ثم حرفه وكتب ما لم أقل عنه ولكن تلك الكلمة لقيت أيضاً صدى كله غضب عند الذين لا يحبون القصيمي، فأرسلوا إلي العتب واللوم، وأن هذا الرجل لا يجوز أن يكتب عنه ما كتب!»!
لو توقف فازلا عند هذه السطور ملياً، لكان عرف منها أن المنجّد قد احتفى بالقصيمي وبكتابه (العالم ليس عقلاً) في طبعته الأولى عام 1963. ولأن فازلا لم يطلع على منشور نشر عن مؤلفات القصيمي وما كتب عنها في بيروت عام 1966 لعرف بعض ما قاله المنجّد في احتفائه بالقصيمي وبكتابه. فما قاله في هذا الاحتفاء قدمه في تلك السطور مجزوءاً ومجتزأً؛ إذ ادعى أنه قال عن القصيمي فقط: إما أن يكون عبقرياً أو مجنوناً!
ولأن محبي القصيمي وكارهيه الذين سيقرأون دراسته عنه الصادرة في عام 1967، كانوا قريبي عهد ببعض ما نقل في ذلك المنشور الصادر في عام 1966 من مقال المنجّد الاحتقاني حول القصيمي وكتابه المنشور في جريدة (الحياة) مع صدور كتاب القصيمي في طبعته الأولى، ادعى المنجّد أن القصيمي حرّف ما قال عنه وكتب ما لم يقل عنه!
هذا الادعاء كان يخاطب به - بالدرجة الأولى - كارهي القصيمي في السعودية الذين لطف من كرههم له فقال عنهم إنهم لا يحبونه! وهؤلاء هم الذين من أجلهم كتب دراسته العدائية والعدوانية عن القصيمي. وأمام هؤلاء كان يدعي بورع زائف أنه لم يقرأ من كتاب (العالم ليس عقلاً) سوى الصفحات التي كتبها القصيمي عن الديكتاتور. وهي الصفحات التي قصر أمامهم إعجابه بالكتاب عليها.
إن كان القصيمي - كما روى المنجّد - يفتخر في أحاديثه أنه يقصد جمال عبد الناصر بالديكتاتور الذي لم يسمه لكي لا يعطي للقصيمي شرف ذمه عند الجبهة السياسية والفكرية الذي هو يناضل فيها ضد جمال عبد الناصر، فحق له أن يفخر؛ لأنه هجاه بشجاعة في هذا الفصل، مع أنه كان مقيماً في مصر... وللحديث بقية.