محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

كثرة حرائق وقلة إطفائيين!

ونحن نستعد لدخول عقد جديد ووداع عقد آخر اتصف بنسبة عالية من الصراع المجتمعي، يمكن بسهولة وصفه بالعقد العربي المضطرب، ماذا نتوقع في المشهد العربي العام من أحداث في عقد قادم؟ يمكن تلخيص ما سوف نراه بـ«كثرة الحرائق وقلة الإطفائيين». قلة الإطفائيين نابعة أساساً من نقص في المناعة المعرفية لدى قطاع واسع من متخذي القرار، بالتأثيرات والتغيرات الاجتماعية الحاصلة في بنية المجتمع العربي، نتيجة عدد كبير من المدخلات المحلية والعالمية.
العقد الماضي لم يكن سهلاً، فقد شهد أوله عدداً من التغيرات الجذرية في عدد من البلدان العربية، شكلت انقلاباً على السائد والمتوقع، أثرت بشكل أو بآخر على مجمل مجتمعات الإقليم، وحددت أولوياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية لعقد كامل، بدأت بحملات شعبية قصيرة وسريعة في كل من تونس ومصر وليبيا، كما أصبحت سوريا هي مكان «التردي السياسي بامتياز» طوال العقد، فهي لم تقتِّل وتقهر مواطنيها؛ بل وفقدت حتى سيادتها، وانتهى العقد الطويل بأعمال سياسية ومطلبية شيمتها الاستمرار والتطويل الزمني، كما حدث في السودان، ويحدث في كل من الجزائر ولبنان والعراق واليمن وتونس؛ بل حتى إيران.
لقد كان هناك نقص فادح في فهم الأحداث من النخب العربية مع مطلع القرن؛ حيث لم تعرف كيف تقرأ المشهد الاجتماعي المتحول، والتغيير الجذري الحادث في النسيج الاجتماعي الوطني، وتعاملت بخفة مع التغيرات البنيوية والثقافية الحاصلة.
وحتى يمكن فهم ديناميات ذلك التغيير، نستعير على سبيل المثال لا الحصر مثالاً من تجربة غربية حدثت في فرنسا، فقد هزمت الأخيرة من قبل روسيا بعد حرب ضروس، فقدت فيها عشرات الآلاف من الجنود الفرنسيين في بداية القرن التاسع عشر، بعد أن كانت منتصرة، وتنبه أحد المتمولين الفرنسيين إلى أن الهزيمة التي منيت بها فرنسا حتى بعد أن وصلت جيوشها إلى موسكو، ليست بسبب نقص في العدة أو العتاد، ولكن بسبب نقص فادح في معرفة المجتمع الآخر، وبناء قرارات مصيرية قائمة على أهواء، دون تبصر بتاريخ العدو أو جغرافيته أو ثقافته، فقرر أن ينشئ معهداً تتعلم فيه النخبة الفرنسية فنون السياسة والعلاقات الدولية، على قاعدة الفهم المجتمعي؛ لأنه خميرة السياسة ومفتاحها، وتحول ذلك المعهد لاحقاً إلى ما يعرف اليوم بجامعة «سيانس بو» المدرسة الشهيرة التي خرجت أفضل سياسيي فرنسا في العصر الحديث؛ حيث تؤهلهم لمعرفة مجتمعهم والمجتمعات الأخرى على منهج علمي.
لقد استقر الباحثون اليوم على التفريق بين العلوم البحتة والتطبيقية وبين العلوم الاجتماعية، على أن الأولى هي العلوم الناعمة والثانية هي العلوم الصعبة، أي أن معرفة النفس والآخر معرفة علمية لا عاطفية على منهج اجتماعي وثقافي هي الأصعب؛ حيث تشكل الفرق بين الحرب والسلام، وبين الاضطراب والاستقرار، بين التقدم والمراوحة بين الاستجابة لمطالب الناس أو احتقارها، على عكس المفهوم السائد في ثقافتنا حول تقسيم العلوم الذي لا زلنا نراوح حوله مع الأسف! حيث يعلي موقع العلوم البحتة، وينظر باستخفاف للعلوم الاجتماعية.
في تفسير آخر لأهمية علم الاجتماع، أخبرني أحد الأصدقاء من الأساتذة العرب في صنعاء قبل عقود، أن أول تجربة له في «مجالس القات» كانت لافتة إنسانياً، فبعد تجربته الأولى عاد إلى المنزل وكان محمَّلاً بفائض طاقة لم يعهدها، فقام بتصحيح كراسات الطلاب التي كان يؤجلها، ثم بقي له من الوقت والطاقة ما حمله على القيام بتجديد طلاء بعض جدران شقته! فإن لم نعرف تأثير هذه العادة التي بقيت طويلاً في اليمن على شرائح المجتمع اليمني وعلاقاته، فلن نعرف دوافع الحوثيين إلى إطالة الحرب دون أن يرف لهم جفن، بسبب كل تلك المآسي الإنسانية والبؤس والشقاء والتعاسة والعوز التي يعانيها المواطن اليمني؛ لأنهم يومياً في «عالم آخر»!
يذكرنا ذلك باجتياح جيوش أدولف هتلر لفرنسا في الحرب العالمية الثانية؛ حيث وزع حبوباً مخدرة على عشرات الآلاف من الجنود، سميت «حبوب الجرأة»، وهي مخدر منشط، فبقي معظمهم لثلاثة أيام يحاربون دون راحة أو نوم، حتى سقوط باريس ودخول جيش هتلر منتصراً.
إذن هناك متغير أساسي يريد البعض أن يتجاهله، ذلك المتغير أن المجتمعات اليوم تعيش حالة اتصال مع العالم، وحالة انتقال غير مسبوقة، وتتوق إلى حل مشكلاتها الكلية، فهي لا تبحث عن المخلص؛ بل تبحث عن الخلاص، بتبني الأدوات الحديثة في الحكم والإدارة المتكئة على المأسسة وحكم القانون وحقوق الإنسان.
في بداية العقد، ظنت بعض القوى في المجتمع العربي أن بإمكانها تقديم مشروع ينظر إلى الماضي، كان حبيساً طوال ثلاثة أرباع القرن. لخص ذلك المشروع في تجربة حكم «الإخوان» في مصر، ومحاولات أمثالهم في السودان وفي تونس وفي ليبيا إلى حد أقل. في تونس اتضح علناً التشبث بالماضي، عندما صرح أحد قادتهم وهو قادم تواً من المنفى قائلاً: «سوف نقيم الولاية الراشدة السادسة». ذلك تصريح خيالي بدائي للسيد حمادي الجبالي، رئيس الوزراء الأول لحركة «النهضة» (ديسمبر «كانون الأول» 2011 - مارس «آذار» 2013). ذاك فقط مثال، وليس حصراً للتفكير خارج القراءة المنطقية لتطور الشعوب، وتأثير علاقتها بالعالم، وما تتوق إلى أن تحققه في المستقبل، كما أنه مفارق للزمن.
والمثال ينساق إلى حالة بعض القوى التي تقف في «المنطقة المظلمة من الرؤية» في كل من لبنان والعراق واليمن وحتى إيران، قوى التمسك بالماضي، ونفي القراءة الموضوعية للمجتمع، فهي لا تريد أن تقرأ الأحداث كما تتجلى على الأرض، وتتعظ بمسيرة التاريخ كما هو، ولكن تنظر إليه بشكل متخيل، فتلجأ إلى القمع الكلي لأي حركة شعبية تطالب بالتغيير وتطال امتيازاتها من جهة، وتقدم مصفوفة فكرية تعتمد على الخرافة وقراءة النصوص مجردة من سياقاتها ومن زمنها من جهة أخرى.
إذن معالم العقد القادم تتشكل أمامنا، وهي استمرار الاستخفاف بالقراءة الاجتماعية المطلوبة من النخب، والاحتيال على مطالب التغيير المتمثلة في إقامة الدولة الوطنية المدنية العادلة، بمناورات سياسية محدودة، منها مشروعات تدعي «الثورية»، ومنها تغيير في خريطة الانتخابات وقوانينها، ومنها الاستعانة بقوى خارجية كما يحدث في سوريا ولبنان وليبيا، ومنها رعاية الطائفية وتنمرها على الدولة، إلا أن كل تلك الجهود التي تريد أن تقفز على متطلبات المرحلة والقراءة الاجتماعية الأعمق، سوف تجعل من استمرار الاضطراب في فضائنا العربي أمراً ممكناً في العقد القادم، فالمقدمات تقود إلى النتائج.
لا بد من الاعتراف بصعوبة القراءة الاجتماعية في فضائنا العربي؛ لأنها تمس شرائح المجتمع التي تحتفظ في مخيلتها ببناء ثقافي شبه صلب، تغييره أو حتى الكتابة حوله يواجه مقاومة من تلك القوى الاجتماعية، التي ترى في القراءة الاجتماعية الناقدة تهديداً لمكانتها.

آخر الكلام:
الواقع أننا بحاجة لقراءة مجتمعاتنا لفهم أعمق للأحداث، واستخدام العلوم الصعبة بفاعلية. فالبعض يقاومها، وآخر يشجبها، وثالث يستهزئ بها، لذلك تستمر الحرائق ويقل الإطفائيون.